يحكى جميل مطر مرة استدعاه هيكل ليقترح عليه السفر إلى بيروت ليطلع على أساليب عمل مؤسسة الدراسات الفلسطينية وشراء الكتب والمراجع، وأن هذه الزيارة كانت ناجحة بكل المقاييس على جميع النواحى، وكتب التقرير بعد شهر عمل ببيروت عن هذه المؤسسة التى تعمل بالبحث العلمى وللتأثير فى الرأى العام الغربى خاصة الأمريكى، ثم يتحدث الكاتب عن أجنحة وحجرات الدور السادس ومنها غرفة لطفى الخولى فى مواجهته وغرفة تحرير مجلة الطليعة وكيف نمت العلاقة مع لطفى الخولى وشباب العاملين بالمجلة، فى الحلقة الثانية من عرض كتاب جميل يستطرد حكاياته بالأهرام والصحفيين.
ويصف جميل مطر موقفه من حجرة لطفى الخولى ومجلة الطليعة قائلا: ويحضر معهم قليلا بالصمت وعدم المشاركة رغم دراسته للنظريات السياسية ومنها الماركسية أو أثناء الاحتكاك المباشر أحيانا مع الحزب الشيوعى الصينى والإيطالى أو التنظيمات اليسارية لشيلة وقت عمله الدبلوماسى فى أمريكا اللاتينية، ومع توطد العلاقة مع لطفى الخولى صرح له بسر وأنه يطلب منه المساعدة فى وضع برنامج وأهداف لطبعة جديدة من الاتحاد الاشتراكى فى ضوء تغيرات البنى السياسية بعد مايو، ويعترف الكاتب بسذاجته والترحيب بالمساعدة الشخصية مع التحفظ على عدم المشاركة فى علاقة مباشرة بالحزب أو الحركة المنظمة، ويطرح مطر التناقض الذى اكتشفه بين ما يعتنقه السادات من أفكار وبين معتقدات لطفى الخولى.
وفى اليوم التالى لهذا الحديث زاره الأستاذ هيكل قليل الزيارات للدور السادس ودخل فى الموضوع مباشرة وبدون تمهيد وعاتبه على عدم إبلاغه بما دار بينه وبين الخولى وأنه يساعد الكثيرين، ولكن هيكل قال له عليك الالتزام بالقواعد أن من يعمل بالأهرام لا يجوز له أن يتعاقد على عمل أو بحث خارج الأهرام وأنك متعاقد مع الأهرام وليس جهة أخرى حتى لو كانت جهة سيادية! وأن ذلك ليس قيدا على حريتك والتى لابد أن تكون بإذن مسبق حماية لك من دواليب البيروقراطية ربما السياسية منها.
ثم يسرد الكاتب بعض المواقف منها حضور القذافى المستمر واقتباسه الثورة الثقافية؛ ليطلق الثورة الخضراء، ثم يسرد الكاتب بعد ذلك سؤال الرئيس السادات عن حوارات هيكل مع الرؤساء بعد عزله من الأهرام وبأى صفة يجرى حوارا مع الخومينى مثلا، فقيل إنه أجراها بصفته الصحفية التى لا تنتهى مع المنصب وخروجه منه. ويحكى مطر عن مقال له عن الوضع فى البرازيل، وبعدها عرف من هيكل أن هذا المقال تسبب له بمشكلة مع الرئيس، ويحتج على الفوضى بالأهرام وأننى لم أطلع عليه وإلا لمنعت نشره؟! ثم أعقب ذلك طلب هيكل أن يصطحبه إلى لقاء السادات بالقناطر، ويختتم ملاحظاته على لقاء الرئيس السادات بأنه لا يستطيع الجزم إن كان الرئيس السادات يتذكر اسمه والمقال أو أنه لم يقرأ المقال وإنما هى وشاية ضد هيكل، ويحكى قصة أول لقاء له بالسادات بروما وما حدث بها.
يصف لنا مطر فى ذكرياته الصحفية و علاقته بالصحفيين بحمدي فؤاد الذى كان يراه من امهر مراسلو الصحف ومحفوظ الانصارى ومصطفى نبيل والتى استمرت علاقته بهم طويلا كما يصف اداء الصحفيات ايضا ومنهن انجى رشدى وهدايت عبد النبى.
ثم نقفز إلى بعد خروج هيكل من الأهرام وانتهاء عمل مطر بأمانة الجامعة العربية مع محمود رياض فى تونس، وهى بها الكثير من الحكايات بالكتاب، كما يروى قصة علاقته بأسامة الباز وجلسات العصف الذهنى التى كان هيكل يعقدها أسبوعيا مساء الثلاثاء، وكيف تم عقد الندوات بخصوص أوراق عمل ورؤى مستقبلية لتطورات الوضع الدولى والإقليمى وحضرها إسماعيل فهمى، وتسبب النشر لأزمة لإسماعيل فهمى ووقفه عن العمل ولكن بعد فترة تم معرفة الحقائق ولقاء الرئيس السادات له وحواره معه حول ما قاله بندوة الأهرام، ثم صدر قرار بعدها بتعيين إسماعيل فهمى وزيرا للخارجيّة وهو من استقال بعد خلاف أيضا مع السادات احتجاجاً على عدم التشاور معه حول مبادرة زيارة السادات للقدس.
ثم يستطرد الكاتب فى أهمية وقوة المؤسسة التى يعمل بها وهى الأهرام ومنها طلب سلفة لشراء سيارة! فمكانة الصحفى من مكانة المؤسسة، لذلك كانت كل الترتيبات تتم عبر الأهرام وبتعاون الدولة المصرية والسفارات، ولذلك تطورت مكانة مركز الأهرام فى مصر والعالم العربى، ويذكر منها عددا من الجولات التى قاموا بها لعدد من دول آسيا، وضم الوفد محمد سيد أحمد المفكر والكاتب الكبير والذى كانت له مكانة أيضا عند أستاذ هيكل، وكيف كان محمد سيد أحمد قويا ومثقفا عميقا فى أسئلته وحواره مع الزعيم الصينى شوان لاى.
ويصف الكاتب هيكل بقوله إنه من حسن حظه أنه تعلم الصحافة على يد معلم كبير، وكان خروجه من الأهرام مشكلة خاصة للمركز لكن الذى حمى المركز واستمراره كان أحمد بهاء الدين، والذى يكنّ له الكاتب كل المحبة والصداقة التى امتدت لسنوات طويلة بعدها، وأكاد أجزم أن أستاذ جميل ينتمى لمدرسة بهاء فى الكتابة أى المقالات والتحليل والدراسات أكثر من ميله لمدرسة الخبر وأستاذها هيكل الذى قد يبدأ المقال بخبر؛ لينتهى به إلى عمق غير مسبوق فى التحليل المبنى على دراسات، ولذلك توطدت واستمرت العلاقة بينهما دائما حتى فى تنظيم جولات للدول العربية والأوربية، وقد تركا الأهرام.
والكتاب يحتوى على تفاصيل كثيرة ممتعة تلقى أبعادا أخرى للتعريف بالشخصيات ومواقعها وتركيبتها، ونقفز إلى مرحلة هامة من تاريخ الكاتب وربما من تاريخ الصحافة المصرية العميقة وهى إنشاء مجلة الكتب وجهات نظر والتى استمرت سنوات قليلة، ولكنها كانت قفزة فى نشر المعرفة وهى أنها تعرض الكتب والأفكار وسبقها مناقشات لإقامة مركز بحوث يهتم بالمستقبل الذى لم يخرج للنور رغم حماس المشاركين والتبرعات له، لا سيما من الأستاذ هيكل الذى أعدت له الشيك عندما لم ننشئ المركز، وهنا لابد أن أتذكر أن فى كل مرة نتناقش ونتحاور عن التعليم يسألنى ما هى خطط المستقبل، ويلح فى السؤال والذى أخذته على محمل الجد فأخذت أبحث عن مستقبل التعليم رغم حالة التشظى به فشكرا له، ومن هنا جاءت أهمية مجلة نظرا لأنها تتسم بالعمق وعرض المعلومات والكتب، مما يوسع من المعارف والأدوات وأخذ الإعداد لها عامين كاملين، وكانت المناقشات الإيجابية مع هيكل وحلمى التونى وابراهيم المعلم ثم بعدها سلامة أحمد سلامة بعد أن تعذر إقناع مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين وقتها بضمى للنقابة ليتسنى تكليفه برئاسة التحرير؟
صدرت المجلة ولعب هيكل دورا كبيرا لتجاوز صعوبات النشأة، واستمر العمل ولكن استقلت وتوقفت المجلة، ثم يتحدث عن مرحلة إصدار جريدة الشروق اليومية وكيف تم تلافى الأخطاء السابقة، وظهرت جريدة قوية مختلفة عن الموجود فى الساحة الإعلامية والصحفية والتى اقتصر إشراف أستاذ جميل بها على صفحات الرأى التى أكاد أجزم أنها من أفضل صفحات الرأى بالصحافة المصرية، وهكذا يختتم جميل مطر بحسم موضوع الهوية فى حياته والذى سأله هيكل عنها كثيرا وهل هو دبلوماسى أم باحث أم صحفى بقوله أنت كاتب والكاتب هويته ومهنته هى الكتابة التى هى العنصر الثابت، وكل ما هو خارج عنها متغير، أو باحث فالكتابة مهنة حرة لا أحد يملك سلطة إحالته للتقاعد.
دام عملك وعطاؤك أستاذ جميل؛ لننتظر الكتاب الثالث عن تجربتك البحثية والأحوال الأكاديمية.
