في مثل هذا اليوم عام 1969 ، رحل عن دنيانا فضيلةُ القارئ الشيخ محمد صديق المنشاوي، أحد أعظم قراء القرآن الكريم، الذي ترك وراءه إرثًا عظيمًا من التلاوة الشجية والصوت الذي ما زال يملأ قلوب المؤمنين خشوعًا وتدبرًا.
وُلد الشيخ محمد صديق المنشاوي في 20 يناير 1920 بقرية المنشأة التابعة لمحافظة سوهاج بصعيد مصر، في أسرة قرآنية عريقة، عُرفت بحبها وتفانيها في خدمة كتاب الله.
كان والده الشيخ صديق المنشاوي من كبار قراء جيله، وقد ذاع صيته في أنحاء مصر معلمًا وقارئًا ومجودًا للقرآن الكريم، وغرس في أبنائه حب القرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم. كان للشيخ محمد صديق المنشاوي ثلاثة إخوة بارزين في مجال تلاوة القرآن الكريم هم الشيخ محمود صديق المنشاوي، قارئ مجود مشهور، سلك نهج الأسرة في تعليم القرآن وحفظه، وذاع صيته في الوسط القرآني.
الشيخ أحمد صديق المنشاوي، قارئ مجوِّد ساهم في نشر علوم القرآن، وخلّف أثرًا بارزًا في محيطه.والشيخ حامد صديق المنشاوي، قارئ مجود برز في الوسط القرآني، وله دور بارز في تعليم وتلاوة القرآن.
وتعد عائلة المنشاوي من أبرز العائلات القرآنية في مصر، اذ ساهمت بشكل كبير في خدمة القرآن الكريم ونشر علومه.
نشأ الشيخ محمد في بيئة عامرة بعلوم القرآن، فحفظ كتاب الله كاملًا وهو دون الثامنة من عمره، ثم أتقن أحكام التلاوة والتجويد ودرس علوم القراءات، وتتلمذ على يد عدد من كبار العلماء، من أبرزهم الشيخ محمد سعودى ، الذي أجازه بالقراءات العشر الكبرى وهو فى الثانية عشر من عمره ، بدأ التلاوة في سن مبكرة في مساجد سوهاج ثم انتقل لاحقا الى القاهرة.
ورغم نبوغه المبكر وتميز صوته الشجي، كان الشيخ محمد متواضعًا بطبعه، زاهدًا في الشهرة اجمع الناس انه كان من العباد الزهاد لم ينظر فى اجر، لم يبحث عن مكانة ، لم يتصدر واجه ، لذا رفض التقديم للإذاعة المصرية عندما عُرض عليه الأمر.
وتذكر بعض الروايات أن مسؤولي الإذاعة اضطروا للذهاب إليه في بلدته لتسجيل صوته بعد أن طال انتظارهم لمجيئه، وهو ما يعكس مدى تمسكه بحياة البساطة والبعد عن الأضواء. ولكن بعد الحاح شديد ذهب الشيخ للاذاعة واستكمل تسجيلاته وفى غضون شهور سجل اجود وانقى واعذب نسخة من المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم الذى يذاع بصفة دورية بإذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، وبلغت تسجيلات الشيخ محمد صديق المنشاوي أكثر من 150 تسجيلًا بالإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى، وظل قارئا للإذاعة المصرية منذعام 1953 إلى أن توفاه الله.
تميّز الشيخ المنشاوي بأسلوب فريد في التلاوة يجمع بين الخشوع، والرهبة، والتأثير الوجداني، حتى لقّبه البعض بـ"القارئ الباكي". استضافته كثير من البلدان الإسلامية كقارئ، حيث استضافته أندونيسيا سنة 1955م، ومنحته وساماً رفيعاً، وكذا تمَّت استضافته في سوريا ، كما تمت استضافته في الكثير من البلدان الإسلامية ؛ كالأردن ، الجزائر ، الكويت ، ليبيا ، العراق ، والسودان، ما جعله يحمل لقب «مُقرئ الجمهورية العربية المتحدة» في الخمسينيات ، كما أنّه سافر إلى السعودية عدة مرات لقراءة القرآن الكريم في الحج ،وقد ترك بصمة خالدة في سجل القراء العالميين، ولا تزال تسجيلاته تلامس القلوب في كل زمان ومكان .
فى عام 1966 م أصيب رحمه الله عليه بدوالى المرئ وفي أيامه الأخيرة اشتد عليه المرض، وجّهت الدولة قرارًا بنقله للعلاج على نفقتها، عرفانًا بمكانته العالية في عالم التلاوة، لكن إرادة الله سبقت فغادر الدنيا قبل أن يتحقق له السفر فى 20 يونيو 1969م عن عمر ناهز 49 عامًا ، تاركًا خلفه صوتًا خاشعًا لا يزال يملأ القلوب إيمانًا وطمأنينة.
وهكذا، رحل الشيخ محمد صديق المنشاوي، لكن صوته لم يرحل. بقي يتردد في أروقة المساجد، ويملأ البيوت طمأنينة، ويُحيي القلوب بتلاوةٍ تحمل من النور ما لا تحمله الكلمات وحدها.
رحم الله الشيخ محمد صديق المنشاوي وجعل القرآن شفيعه ورفيقه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.