السبت 27 ابريل 2024

إبراهيم أصلان.. درويش الغلابة.. وعندليب الكتابة


محمد الشافعي

مقالات12-5-2022 | 14:59

محمد الشافعي

أنسنة الأشياء منحة لا يملكها إلا أولو العزم من البشر..  والذوبان فى حضرة الغلابة.. وكتابة آلامهم.. والتحدث  باسمهم.. ملكة لا يملكها إلا (إنسان) تسامى حتى صار خلاصة النبل ورقي المشاعر.. وتحويل (الكلام العادى) إلى (كيان مدهش) موهبة لا يملكها إلا (أديبٌ ساحر).. ينفث من روحه فى ذلك الكلام العادى.. الذى لن يكون فى أفضل حالاته إلا بضع حبات من (الخرز الملون).. ليتحول هذا الخرز الملون.. إلى أنواع شديدة النُدرة من الأحجار الكريمة.. وموسوعية التلقى والاطلاع.. لا يمتلك القدرة على (تقطيرها).. وتحويلها إلى (عصارة رحيق الفكر).. إلا أديب يرفع رايات الاستغناء وترويض الأفكار.. لينتصر دوماً لقيم (الكيف).. على حساب إغراءات (الكم) .. وقد اجتمعت كل هذه السجايا.. وأسلمت قيادها للأديب المبدع إبراهيم أصلان.. الذى آثر فى كل أعماله أن (يكتب الناس).. ولا يكتب عن الناس كما يفعل الآخرون.. ولذلك يشعر كل من يقرأ هذه الأعمال.. بأن الحروف والكلمات بشرٌ من (لحم ودم).

ولد إبراهيم أصلان يوم الثالث من مارس 1935.. فى قرية شبشير الحصة.. التابعة لمدينة طنطا.. ليصبح ابنا فى أسرة أقرب إلى القبيلة..  قوامها 12 ابنًا .. يعولهم موظف بسيط ولكنه مكافح وصبور.. وذهب إبراهيم فى سنوات طفولته الأولى إلى كُتّاب القرية.. ليحفظ القرآن على يد الشيخ محمد قطب.. وكان رجلاً قاسياً يعاقب الأطفال بشدة.. فهرب الطفل نحيل الجسم من الكُتّاب .. وكانت فرحته شديدة عندما انتقلت أسرته إلى القاهرة.. لتسكن فى حي إمبابة.. الذى سيتحول فيما بعد إلى مملكة خاصة جداً.. تحفر كل تفاصيلها على خلايا أصلان.

التحق الطفل إبراهيم بمدرسة أهلية.. وسرعان ما تركها إلى مدرسة إمبابة الإسماعيلية وفى هذه المدرسة لاحظ مدرس اللغة الإنجليزية محمد أبو يوسف.. شغف التلميذ الصغير بالقراءة.. فأحضر له استمارة اشتراك فى المكتبة.. ة.. وبعد حصوله على الابتدائية.. التحق بمدرسة لإعداد المعلمين لمدة عام ثم تركها.. ثم التحق بمدرسة فى العباسية خاصة بالنسيج والسجاد.. ورغم أنه لم يستمر فى هذه المدرسة إلا سنة واحدة.. فقد كان تأثيرها كبيراً جداً فى مسيرته الأدبية.. حيث تدفع حرفة السجاد اليدوى أصحابها إلى تعلم (الصبر والإتقان).. أو كما يقول أصلان (تعلمت من هذه الحرفة الفكرة الكلية للجمال .. التفاصيل الكثيرة الصبورة.. 
وخلال هذا الترحال الغريب بين المدارس.. وجد التلميذ الذى لا يستقر فى مدرسة.. ثلاثة كتب فقط فى بيتهم.. الأول القرآن الكريم.. والثانى دلائل الخيرات تأليف محمد بن سليمان الجزولى.. المتوفى 870 ميلادية.. وهو كتاب فى ذكر الصلاة على النبى المختار.. أما الكتاب الثالث فيبدو أنه كتاب سرى.. لأن والده كان يضعه فوق الدولاب.. وهو كتاب ألف ليلة وليلة.. فراح يقرأ خلسة فى هذا الكتاب الشيق.. ودفعه شغفه بالقراءة إلى الذهاب لسوق إمبابة المجاور لبيتهم.. والذى يباع فيه كل شيء.. للبحث عن الكتب وبدأ بروايات أرسين لوبين.. ثم تحول شغف القراءة إلى حمى ربما لتعويض غياب التعليم النظامى.
وعندما فشل الفتى إبراهيم فى الحصول على شهادة تعليمية.. ألحقه والده بالعمل فى هيئة البريد.. فعمل فى البداية (بوسطجى) لتوزيع الخطابات على أصحابها .. وكان لابد من أن يعمل لفترة مع مدرب (موظف أقدم) وكان الرجل يدخل العمارات وينادى ويصفق.. ليتسلم أصحاب الخطابات خطاباتهم.. وفى أحد البيوت كانت هناك ثلاجة خشبية  بجوار كبابجى.. كان الرجل يضع فيها خطابات الدورة المسائية.. وخلال عمله بالبريد كان يقرأ بشكل عشوائى كل ما يقع تحت يديه من أعمال وأوراق.. وجاءت اللحظة الفارقة عندما سأل الرجل الذى يدربه على توزيع الخطابات وهما يسيران فى حى جاردن سيتى (أنا عايز أبقى كاتب).. فرد عليه الرجل (لابد أن تقرأ.. لأن كل الكتاب الكبار اللى سمعنا عنهم.. معملوش حاجة غير أنهم قعدوا يقروا).. ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف الفتى المسكون بالثقافة.. عن القراءة.. ( وراح يسعى بقوة لتحصيل كل روافد الثقافة.. الشعر - علم النفس- التاريخ.. الخ.. وكان يشعر بكل لفظ جديد يضاف إليه (كنت  ولا يمر يوم دون أن أقرأ بشكل جيد.. وعندما لا يحدث ذلك يطاردنى إحساس بالذنب والتقصير).. وهكذا عاش طوال حياته فى حالة تعلم دائم.. وقد ترافق هذا الاطلاع الواسع مع ذاكرة حديدية.. تثير الإعجاب.. ولم يعتمد فقط على تلك الذاكرة ولكنه امتلك مكتبة ضخمة تحوى كل المعارف.
ونعود إلى رحلته مع البريد.. فبعد فترة التدريب تركه المدرب ليعمل.. وحده.. ولكنه تعثر فى خجله .. ولم يستطع دخول البيوت لينادى ويصفق لكى يتسلم الناس خطاباتهم.. فكان يترك كل الخطابات فى الثلاجة الخشبية.. وتم اكتشاف الأمر وإحالته للتحقيق.. ليتم نقله إلى مدينة المحلة.. ثم انتقل بعد ذلك إلى هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية (التلغراف).. ليعمل لسنوات طويلة جداً فى (وردية ليل).. وليبدأ مشواره الأدبى الحافل.. ذلك المشوار الذى ارتبط بمجموعة من الأشخاص.. كان لهم التأثير الأكبر.. كما ارتبط بشكل وثيق بطبيعة العمل.. وكانت السيدة والدته فى مقدمة الشخصيات التى تأثر بها.. واسمها (رأفة).. وكتب عنها فى مقدمة روايته وردية ليل (امرأة استثنائية بكل المقاييس- ذكية جداً.. لديها قدر مذهل من الحساسية.. إحساسها بأولادها وخوفها عليهم قوي للغاية.. عاشت فى صراع مع المدينة مع احتفاظها بأصولها الريفية الجليلة.. تحتفظ طوال الوقت بكبريائها.
 وتأثر بأستاذه محمد أبو يوسف مدرس اللغة الإنجليزية.. الذى صار واحدًا من أكبر كتاب السيناريو والحوار فى السينما المصرية.. حيث كتب السيناريو أو الحوار لمجموعة من أهم الأفلام مثل (باب الحديد- امرأة فى الطريق- إحنا التلامذة- أبو أحمد- لا تذكرنى- ألمظ وعبده الحامولى- من أجل امرأة- غابة من السيقان.. إلخ ..
.. أما التأثير الأكبر والأهم على مشوار أصلان الأدبى.. فكان للأربعة الكبار تشيكوف وهمنجواي ومحيي الدين محمد ويحيى حقي.
بعد أن تشبعت كل خلاياه بروافد الثقافة المختلفة.. شعر برغبة شديدة فى الكتابة وسأل نفسه وماذا أكتب؟.. وكان مفتونا بمسرح تشيكوف .. بعد أن قرأ مجموعته من ترجمة د. محمد القصاص.. توقف طويلاً أمام قصة (موت موظف).. وهتف على طريقة (فيثاغورث) وجدتها.. وقرر أن هذا هو الإطار الذى يلائم ميوله فى الكتابة.. وبدأ بكتابة القصة القصيرة فى عام 1963. وفى هذا العام كتب 12 عملاً ما بين قصة ومسرحية.. نشر بعضها - وكانت مسرحياته الأسبق فى النشر .. ومزق بعضه الآخر.. لأنه شعر بأنه يستطيع قراءتها عند غيره.. وهو يبحث منذ البداية عن التفرد.. وفى عام 1965 كتب عدداً من القصص القصيرة.. نشر معظمها فى جريدة المساء.. ومنذ هذا التاريخ أصبح مسئولاً عما يكتبه وينشر له.
وإذا كان تشيكوف قد حدد مسار أصلان.. وجعل القصة القصيرة مشروعه الأثير.. فقد اجتمع همنجواى ويحيى حقى مع وظيفة (التلغرافجى).. فى تحديد هوية ما يكتبه من حيث الصياغة والنكهة .. حيث كان الأديب الأمريكى إرنست همنجواى كاتبه المفضل.. وقدم الباحث شكرى عبد المنعم.. دراسة باللغة الإنجليزية فى جامعة عين شمس.. عن (تأثير همنجواى فى القصة القصيرة المصرية.. إبراهيم أصلان وبهاء طاهر نموذجاً).. وقد تعلم أصلان من همنجواى ويحيى حقى الاختصار والنحت فى اللغة.. فتخلص فى كتاباته من الزخارف البلاغية.. وجعل لغته تلغرافية.. شديدة التقشف.. وقد أكد عمله فى (التلغراف) على تلك الهوية فى الكتابة حيث يقول (عندما اُنتدبت من هيئة البريد، إلى المواصلات اللاسلكية مع مطلع الستينيات.. وجدتنى فى مكان الكلام فيه بفلوس.. لا توجد كلمة واحدة من دون ثمن مدفوع.. وفى آخر النهار هناك إحصاء عام لكل الكلمات ..وفى مكتب التلغراف يتحول الجميع.. على مختلف تعليمهم وثقافاتهم- إلى عباقرة فى فن التكثيف والاختصار.. فهم يريدون إرسال أكبر قدر من المعلومات فى أقل عدد ممكن من الكلمات).. وفى (وردية ليل) التى عاشها لسنوات طويلة جداً.. كان يقضى وقته فى القراءة.. أو إعادة قراءة بعض البرقيات المرسلة بين الأشخاص.. واكتشف أنه أمام (مرسل ونص ومتلق).. وهو الإطار الحاكم لأى عمل فنى.. فالمرسل يريد الاختصار معتمداً على خبرات سابقة مع المتلقى.. فى محاولة لإيجاد شفرة تجمع بينهما.. وعلى أى مبدع أن يبحث عن هذه الشفرة التى تربط بينه وبين المتلقى . تأثر إبراهيم أصلان كثيراً فى بداياته الأولى بالناقد السودانى محيي الدين محمد.. والذى كان يعمل معه فى ذات الغرفة فى (التلغراف).. وفى ذات الوقت كان مراسلا لمجلة الآداب اللبنانية.. خلفا للكاتب رجاء النقاش.. وكان موسوعياً فى كتاباته.. يكتب فى الأدب والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية.. وفى بداية تعارفهما قدم محيي الدين محمد لأصلان قوائم بأولويات القراءة.. الأعمال الكاملة لديستوفسكى.. الأجزاء الخمسة الأولى من قصة الحضارة لديورانت.. 
وقرأ محيي الدين محمد كل القصص الأولى لإبراهيم أصلان وناقشه فيها.. وكان محيي صديقاً للأديب علاء الديب المشرف على صفحات الأدب بمجلة صباح الخير.. فأرسل له فى عام 1965 قصتين قصيرتين لأصلان.. والذى فوجئ بنشرهما مع تقديم بديع من الديب عن الموهبة المبشرة (أصلان صاحب موهبة تضع حلولاً عملية لمشكلات اللغة).. وكان أصلان من قبل نشر القصتين بعيداً عن كل المنتديات الأدبية.. والتى كانت كثيرة جداً خلال فترة الستينيات .. وبعد النشر ذهب إلى مقهى ريش وتعرف على كل أدباء جيله.. الذين قدموه للأديب الكبير نجيب محفوظ.. وارتبط أصلان بأدباء جيله.. ضياء الشرقاوى.. محمد حافظ رجب محمد البساطى - سعيد الكفراوي- صنع الله ابراهيم .. يحيى الطاهر عبدالله.. خيرى شلبى.. إلخ.. وتحول يحيى وأصلان إلى فرسيّ رهان.. يتحدث عنهما الوسط الأدبى على اعتبار أنهما الأفضل فى مجال كتابة القصة القصيرة.. وقد أعجب نجيب محفوظ بكتابات أصلان.. وكتب رسالة إلى إدارة التفرغ التابعة لوزارة الثقافة.. لكى يحصل أصلان على منحة التفرغ.. لكى يتفرغ.. للكتابة بعيداً عن الوظيفة.. وبالفعل حصل على منحة التفرغ بشرط أن يكتب رواية.. ولم يكن قد فكر من قبل فى كتابة الرواية.. وتحولت منحة التفرغ إلى بداية مشواره مع الرواية.
وقد بدأت علاقة أصلان بأستاذه الأكبر يحيى حقى بمشكلة.. وذلك عندما قررت مجلة (المجلة) .. التى كان يرأس تحريرها يحيى حقي.. تقديم عدد خاص عن القصة القصيرة.. وطلبوا قصة من إبراهيم أصلان.. فقدم لهم قصة (بحيرة المساء).. وفى اليوم التالى ذهب إلى المجلة.. ليجد أن الناقد فؤاد دوارة مدير التحرير قد كتب على القصة (غير موافق).. فشعر بالغضب وذهب إلى حقي ليسحب قصته .. فقال له بكل حنو (هنحلها).. أرسل قصة أخرى.. وسنبعث القصتين إلى د. شكرى عياد.. وسنأخذ برأيه.. ثم قال له جملته الحكمة (من ألّف فقد اُستُهدف).. ومنذ هذه اللحظة ارتبط بوشائج شديدة المتانة مع أستاذه يحيى حقى.. حيث جمع بينهما نقاء القلب وصفاء اللغة.. وتبنى حقى موهبة أصلان ونشر له الكثير من الأعمال فى (المجلة).. وتعلم من حقى الإيمان بتجاوز الفنون والآداب.. ولذلك كان أصلان يتحدث عن السينما وكأنه ناقد محترف.. وكذلك عندما يتحدث عن الفن التشكيلى) .. وفى هذا الإطار نذكر أن أصلان يتمتع بموهبة كبيرة فى مجال الرسم.. ولكن موهبة الأدب رسخت.. وموهبة الرسم هربت.. وعن السينما يقول (أنا وأبناء جيلى جزء أساسى من تكويننا الثقافى يرجع إلى نادى سينما القاهرة.. حيث شاهدنا فيه الأعمال الكاملة للمخرجين الكبيرين فللينى وبرجمان وكل الأعمال العالمية المهمة).
(وهكذا كان يردد الأديب الكبير يحيى حقى.. كل الفنون عائلة واحدة.. وأن هذه وسائط مختلفة.. كل وسيط له وسائله التعبيرية.. التى لا يستطيع وسيط آخر أن يقوم بها).
وكان أصلان يؤكد على أن أستاذه يحيى حقى .. هو النموذج الأبهى.. للتربية المثلى التى يجب أن يحظى بها المبدع.. وقد أخذ عن أستاذه حقى فكرة الانغماس فى عالم الصوفية ولكن صوفية أصلان كانت فى حضرة الحرية والدفاع عنها.. حرية الإنسان الخاصة.. وحرية الإبداع.. والحريات العامة.. وقد عاش أصلان طوال حياته رافعاً راية أستاذه (المنتسبون إلى الكتابة لا محترفوها).. حيث يرى أن (هناك طيلة الوقت كُتّاب.. وهناك كًتًبًه.. وهناك مستكتبون.. والكل يكتب).. ولذلك فضل الانتساب وليس الاحتراف.. مع إتقانه طريقة خاصة فى الاختزال.. حيث يؤمن بأن الكتابة هى (فن الحذف).. فلا يكتب ما يعرفه القارئ.. ولذلك يحذف كل ما يمكن أن يتوقعه القارئ.
رغم إنجازه للعديد من القصص والمسرحيات.. لم يتعجل إبراهيم أصلان النشر.. وذلك تحسبا لردود أفعال النقاد والأدباء.. وعاش بعد ذلك يتعجب من استعجال الأدباء الجدد وتهافتهم على نشر أعمالهم (عمال على بطال).. وبدأ النشر المنتظم بداية من عام 1965.. واحتضن موهبته عبدالفتاح الجمل.. المشرف على الملحق الأدبى فى جريدة المساء.. وصاحب الدور العظيم فى دعم ومساندة كل أدباء الستينيات.. مستثمراً المناخ الثقافى الرائع التى أشاعته ثورة يوليو بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر .. حيث كان مشروعها الثقافى من أهم مشروعاتها.. وكانت قصته الأولى التى نشرها بعنوان (الملهى القديم).. وراح ينشر قصصه فى المساء مقابل 280  قرشا للقصة الواحدة.. ثم نشر فى مجلة المجلة مقابل سبعة جنيهات للقصة الواحدة.. وكان أستاذه يحيى حقى قد ميزه عن كل أقرانه.. الذين كانوا يحصلون على خمسة جنيهات فقط.. وفوجئ فى عام 1969 بأبناء جيله (جيل الستينيات) .. يقدمون ملفا كاملا عن قصصه فى مجلة جاليرى 68 تلك المجلة الطليعية صاحبة الدور الرائد فى دعم جيل الستينيات .. ذلك الجيل صاحب البصمة شديدة التميز فى تاريخ مصر الفكرى والأدبى والسياسى والاجتماعى.. وتحول أصلان إلى واحد من أبرز نجوم هذا الجيل.. وذلك اعتمادا على عصاميته وإخلاصه الشديد للأدب.. وتحوله إلى (جواهرجى بشر).. وصاحب قدرة عجيبة فى جمع (المقتنيات البشرية ومثل هذه الخبرات جعلته مثل (صياد اللؤلؤ) .. يلتقط المشاهد والمشاعر التى يصعب كتابتها أو التعبير عنها.. ثم يحول تلك المشاهد إلى حياة من لحم ودم.. وكل هذا جعله (فَتّاح سكك) فى الكتابة.. يقف طويلا أمام الشخصيات الهامشية.. والتفاصيل الصغيرة.. لعدم رغبته فى الوقوف أمام الكليات والمطلقات .. ويكتب غالبا بدوافع وجدانية.. بعيدا عن أى دوافع فكرية .. فمن وجهة نظره القيم الكبيرة يحياها البسطاء بشكل تلقائى.. وكل تفاصيل الحياة تصلح لأن تكون فناً إذا أدركنا أن الجمال هو أداة الفن.. ولذلك تخلو أعماله من التنظير والتعقيد.. ومن الفرسان الذين لا يخطئون .. ولا حتى البطل الفرد.. ولن تجد فى أعماله هوانم وبكوات.. ولكن نجد الطبقة الدنيا من المجتمع.. والشرائح السفلى للطبقة الوسطى.. ورغم ذلك فتلك الشخصيات تمتلك حرية.. وشجاعة لايملكها الأغنياء.. وفيهم تناقض إنسانى عظيم.. يصنع كل آليات الدراما.. وكان يراهن على أن هؤلاء الغلابة .. هم من سيحركون البلد للأفضل بشرط أن يحصلوا على التعليم الجيد.. وتحول فى كل أعماله إلى المتحدث الرسمى باسم الغلابة والبسطاء .. فشخصيات وأبطال قصصه.. بسيطة عفوية.. دافئة مثله تماما .. ورغم هذا استطاع أن يغلف هذه البساطة بالدهشة والتجديد.
ولم يحظ أصلان فى بداياته بترحيب زملائه الأدباء فقط.. ولكنه حظى بترحيب أكبر من النقاد.. كما راح الشاعر صلاح عبدالصبور.. المسئول عن النشر فى هيئة الكتاب.. يلح على أصلان لكى يصدر أول كتبه من الهيئة.. ولم يحدث ذلك إلا فى عام 1971.. عندما أصدر مجموعته الأولى (بحيرة المساء) .. وظل أصلان طوال الوقت يدين بالفضل لأصدقائه ويقول (أعاننى على الاستمرار حماسة الأصدقاء.. وأجتهد طوال حياتى حتى لا أفقد حماسة هؤلاء الأصدقاء).. خاصة وأن الستينيات كانت حالة كاملة الإيقاع والمفردات.. صنعت هذا الجيل المتميز .. الذى يصعب كشف كل ملامحه.. إلا عبر تأمل روافده المختلفة من سينمائيين وتشكيليين ومسرحيين وروائيين وشعراء.. والروائيون ليسوا إلا ملمح أساسي من ملامح هذا الجيل.
واستطاع أصلان أن يصنع لعالمه الروائى مواصفات بصرية واضحة.. وذلك لإيمانه بأن اللغة ليست أفضل الوسائل للتعبير عما هو مرئى.. فهناك وسائط أخرى تثرى المجال التعبيرى لأى كاتب .. وُفي كتاباته يسعى لكى يتعامل القارئ مع مشهد بصرى زاخر.. بتفاصيل الحياة ونصوص كلها سعى للكشف عن هذه التفاصيل.. وذلك لإيمانه بأن لكل كاتب عالمه الخاص.، فالكتابة استجلاء وكشف وتعميق لهذا العالم.. وليست نوعا من التكرار .. ) كما كان على قناعة بأن الأماكن ليست لها قيمة فى حد ذاتها.. وإنما تكتسب قيمتها من الذاكرة المشتركة.. التى يمكن أن تنشأ بيننا وبين مكان ما .. ويقول أصلان (عندما أكتب عن أشخاص أتكئ على شخص ما صادفته أو قابلته.. فالعالم ملىء بالبشر.. وليس هناك حاجة لاختراع أشخاص جدد.. فاختراع الأشخاص فى الأدب مجرد اختراع (جثث.. 
وكان أصلان صاحب نظرية غريبة فى الكتاب (كلما ضيّقت الأمور على نفسك استنفرت طاقاتك الإبداعية) .. وربما تلك النظرية هى التى جعلته عصيًا على التقليد.. وعصيًا على النسيان... ورغم بعد لغته تماما عن البلاغة والشاعرية.. إلا أن النقاد أطلقوا عليه (شاعر القصة القصيرة).. وذلك تقديرا للغته الفريدة.. وإصراره على الانتصار للكيف على حساب الكم.. (ورغم انشغاله بقضية الكتابة والقراءة طوال حياته.. إلا أنه لم ينظر لنفسه قط بوصفه كاتباً .. ولكن مجرد عاشق للكتابة.. ذلك العشق الذى جعله يرسم قصصه القصيرة بحب ومهارة.. وتقنية عالية.. وشاعرية تصنع أنغامًا بالكلمات.. وتجعل من هذه القصص لوحات تشكيلية من خلال لغة جميلة متقنة.. وانحيازه للكيف جعله يرفض ما تردد عن أن (كتاباته قليلة) فيقول التجربة تضع بداخلى شيئا ما .. يتحول إلى زاد أكتب به لا أكتبه .. كما أننى لا أكتب حياتى مباشرة.. ولكنها موجودة خلف كل ما أكتبه.. فالعبرة ليست فى الكلمات ولكن كيف قيلت وفى أى سياق تمت كتابتها.. كما أن المواجع الحقيقية غير قابلة للكتابة .. وغير قابلة للتعبير عنها بأى فن من الفنون.. ولكن يمكن التعبير بها.. فالرسام العالمى فان جوخ أكثر فنان تعذب.. ولكنه لم يرسم هذا العذاب.. بل رسم به .. ولذلك حقق كل هذا الإبداع..
وفى كل أعماله انطلق من خبراته الحياتية الهائلة.. التى اكتسبها من مراقبة سلوكيات الناس .. أو من خلال المهن الكثيرة التى تعلمها ولكنه لم يعمل بها .. والتى جعلته شديد الولع بالأيدى الذكية.. فقد يقضى الساعات الطويلة فى تأمل صانع يتقن صنعته فاليد الذكية مبدعة.. وأكثر أهمية من عشرات العقول الغبية التي تدعى أنها تفهم وتعي.. وكان أصلان يتألم كثيرا ويتحسر على تلك المواهب الكثيرة وخاصة فى المناطق الفقيرة.. والتى تعبر عن نفسها فى صيغ منحرفة .. لأنها لم تجد من يحتضن مواهبها.. ويقدم لها الصيغ البديلة .. وقد وجد أصلان الصيغة المثلى التى تعبر عن مواهبه.. ولذلك كان يقول (جائزتى) الحقيقية هى إنجاز شىء يرضينى.. ولا بأس أن يكون مرضيا بالنسبة للآخرين.. فلم أكن أنتظر أى مقابل من الكتابة أكثر من الرضا بما أكتب) .. والبحث عن ذلك الرضا جعله طوال الوقت عاشقا وهاويا للكتابة .. وليس كاتبا محترفًا .. ولذلك لم يزاحم أبدا فى الحياة الأدبية.. ولم يسع إلى الأضواء .. ولم يلهث خلف المناصب.. ولكنه يناجي الأفكار فى (خلوة الغلبان) .. يفكر كثيرا قبل أن يخط حروفه وكلماته على الورق- يمتلك صلابة الرأى .. وشجاعة الجهر بما يؤمن به .. يغزل حكاياته من التفاصيل الصغيرة فى حياتنا اليومية - فهو كاتب الواقع والناس العادية.. كما أنه رسام التفاصيل المتمكن .. والذى لم يحبس إبداعه داخل (أيديولوجية جاهزة) أو رسالة سابقة التجهيز.. ولم يحاول الدخول إلى الأعماق النفسية للشخصيات .. بل قدم التجارب اليومية العادية.. والتى بدأت بمغامرة فنية خلقت لمنطقة إمبابة .. ذاكرة إنسانية لها منطقها المتميز .. كما خلقت علاقة شائقة.. بين الأحداث والشخصيات .. ورغم الفقر الذى يعانى منه غالبية أبطاله.. إلا أنه يقدم أحداثه بعيدا عن الميلودرامية الفجة التى تستثير المشاعر .. وجعل المشاعر الدافئة تحيط بأبطاله.. وتدعمهم وتقويهم على مواجهة الحياة.. كما حرص فى كل كتاباته على أن ينأى عن الثرثرة والتزيد.. والابتعاد عن القبح والفجاجة .. من خلال كتابة تشيع البهجة .. وكان يردد (عذوبة الكتابة جديرة بعذابها) .. وهذا الاستغناء عن كل ما هو زائد .. جعله مثل فنانى (المنمنمات) - مهارة فائقة .. وصنعة دقيقة.. وهذه الدقة التى امتزجت بالانحياز الكامل للكيف.. جعلت إبراهيم أصلان ذلك المبدع القدير.. يكتفى خلال نصف قرن من الإبداع.. بإصدار تسعة كتب فقط هى (بحيرة المساء 1971 - يوسف والرداء 1976 - مالك الحزين 1983 - وردية ليل 1992 - عصافير النيل 1999- خلوة الغلبان 2003 - حكايات من فضل الله عثمان 2003 - حجرتان وصالة 2010 - شىء من هذا القبيل). وفى هذه الأعمال تخطى أصلان مرحلة الكتابة.. إلى مرحلة الوصول إلى جوهر الإنسان وجوهر الفن معًا.. فاستطاع أن يعزف على أوتار القلوب.. مثل مايسترو فائق الحس.. دفاق العاطفة.. يقود عازفية فى رشاقة وحب وثقة نحو التعبير عن أحداث الحياة الباقية (الحب - الموت - تغيرات الزمن.. فى لغة مقطرة متجانسة مع أجواء الناس وكلامهم .. للوصول إلى كثافة الشعر فى بعض القصص.. وذلك لأنه يضع قلبه ومشاعره وروحه فى أعماله .. لتحتضن الشخوص بالحب والحنو والأسى.. من خلال حس إنسانى مولع بالبسطاء والغلابة.. جعل عالمه القصص والروائى مليئا بالمطحونين والمهمشين والمنبوذين والمستضعفين .. ليصبح أصلان صوت المستضعفين فى الأرض.. منطلقا من مملكته الخاصة.. إمبابة والكيت كات والأحياء الشعبية والمهمشة.. خاصة بعد أن ضربت العشوائية كل أركان الوطن.
وهذه الأعمال قليلة العدد عظيمة القيمة.. استنزفت وقتا طويلا لإنجازها .. فرواية مالك الحزين والتى لا يزيد عدد صفحاتها على 166 صفحة .. ظل يكتب فيها عشر سنوات .. حيث بدأ فى عام 1972 وأصدرها فى عام 1983 .. وذلك لأنه ينحت الرواية نحتا.. ولم يكن غريبا أن تكون هذه الرواية ضمن أفضل مائة رواية فى تاريخ الرواية العربية.. وقد استطاع أصلان فى مالك الحزين توظيف آليات السيناريو والتقطيع المشهدى (المونتاج) مع الاعتماد على الحكايات البسيطة التى تشكل فى النهاية تركيبا فسيفسائيا.. ينحاز إلى إنسانية الإنسان .. وكان من الطبيعى أن تتحول هذه الرواية إلى واحد من أهم أفلام السينما العربية (الكيت كات) .. من إخراج داوود  عبدالسيد وبطولة محمود عبدالعزيز - وتتناول الرواية فترة تغير اجتماعى تتمثل فى تغير ملامح المكان والشخوص الذين يعرفهم جيدا.
ونفس الشىء حدث مع روايته الأخرى عصافير النيل والتى حولها المخرج مجدى أحمد علي إلى فيلم سينمائى.. ولأن أصلان يعمد دائما إلى أنسنة الأشياء والأمكنة كما فعل فى مجموعة حكايات من فضل الله عثمان.. ولذلك فإن كل أعماله يسهل تحويلها إلى أعمال درامية.. وقد أشاد أصلان بفيلم الكيت كات وقال هو نفس عالمى وروح المكان.. والحقيقة أن إبراهيم أصلان - الإنسان والمبدع - يستحق دراسات مطولة.. حيث اتسم ببصمة شديدة التميز والإنسانية والغوص فى أعماق هذا الوطن .. والأهم أنه عاش طول الوقت يرفع رايات الحب الحقيقى.. وفى ذلك يقول (لا يجب أن تتحدث عن الحب.. بل عليك أن تتحدث بحب.. فكل النصابين يجيدون أحاديث الهوى.. ولا يجب أن تتحدث عن العدل.. بل يجب عليك أن تتحدث بعدل.. لأنه لا يجيد الحديث عن العدل مثل الظالمين .. فالعبرة ليست أبدا فى معرفة الناس.. إنما الإحساس بهم) ويتبقى أن نتوقف سريعا أمام موقف أصلان من السياسة .. حيث سار عكس اتجاه الغالبية العظمى من أبناء جيله.. الذى انغمس كل منهم فى السياسة بشكل أو بآخر .. على الأقل فى الانتماء الفكرى- ورغم أن أصلان بشكل عام ينحو نحو اليسار إلا أنه ابتعد عن ممارسة السياسة مبررا ذلك (انسجاما مع ظروف موضوعية .. أهمها أن أنتمي إلى جماعة وأردد معهم نفس المقولات حتى لوكنت مؤمنا بها - ولإيمانى بأن الفكر يكتسب أهميته من قدرة الإنسان على تبنيه.. وقراءة تجلياته فى تفاصيل الحياة اليومية.. وعن نفسى لا أستطيع إخضاع ضميرى الخاص لضمير الجماعة ) .. ومن هذا المنطلق كانت مواقفه (بنت دماغه) .. بغض النظر عن توافقها أو عدم توافقها مع أى تيار.. وبشكل عام كانت آراؤه متوافقة مع فكر اليسار. وبالتأكيد لا تخلو قصصه من بعض الإشارات السياسية .. مثلما حدث فى قصة مصابيح الموجودة ضمن مجموعة وردية ليل - حيث يقول على لسان الحريرى (عبدالناصر كان شريفا ووطنياً) .
وفى سنواته الأخيرة شارك فى الحراك السياسى الذى سبق أحداث يناير 2011 حيث شارك فى حركة كفاية.. والجمعية الوطنية للتغيير رفضا لسياسات الرئيس الأسبق حسنى مبارك وقال بعد أحداث يناير (أنا ممتلئ بالفرح لأننى لم أرحل قبل أن أشهد أبناء مصر.. وهم يقدمون للعالم .. بطاقة تعريف جديدة لهذا الوطن) .. وبعد يناير 2011 كتب سلسلة مقالات فى الأهرام بعنوان (انطباعات صغيرة على حادث كبير) وكان أحد المثقفين المكلفين بصياغة مشروع سياسى وفكرى للدولة المدنية.
 
لقد عاش إبراهيم أصلان سنوات طويلة جدا فى (برجه الليلى) بالدور الرابع فى سنترال رمسيس.. والذى يطل على شارعى رمسيس والجلاء ويقول عن ذلك (أنا كائن ليلى يزعجنى وجودى فى دائرة الضوء .. تزعجنى الكاميرات والميكروفون.. ) ومن خلال هذا البرج الليلى كان يقرأ الناس من خلال برقياتهم .. ويتأمل حركتهم فى الشوارع .. ويفرز كل ذلك رحيقا إبداعيا رائعا.. جعله يحظى بكثير من الجوائز .. جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية مالك الحزين 1989 - جائزة الدولة التقديرية 2004 -جائزة كفافيس الدولية 2005- جائزة ساويرس فى الرواية عن حكايات فضل الله عثمان 2006 - جائزة النيل 2012 بعد رحيله بأشهر قليلة.
وفى الأيام الأخيرة عام 2011 أصيب أصلان بنزلة برد .. تناول على أثرها بعض العقاقير المقاومة للبرد.. ولكنها أثرت سلبا على عضلة القلب وأربكت وظائفه .. مما استدعى نقله إلى مستشفى قصر العينى .. لتتدهور حالته الصحية سريعا .. ويرحل عن دنيانا يوم السابع من يناير 2012 تاركا فراغا إنسانيا كبيرا لدى كل محبيه.. وإبداعا خالدا يثرى العقول ؟.. وينثر المشاعر النبيلة على الكون كله.

Dr.Randa
Dr.Radwa