دائما ما يكون للحظ، أو بالأحرى: للقدر، في حياة كل منا أصابعٌ تحرك وأسرارٌ توجِه وأحداث تُحاك، فكان من قدر الله على "هوارد كارتر" مكتشف مقبرة الملك "توت عنخ آمون" أو من حسن حظه، أن تعرَّف في بداية التحاقه بحقل الآثار المصرية، بواحد من كبار علماء الآثار والحفائر في مصر، وهو السير "ويليام فلندرز بتري" وعمل معه سبع سنوات كاملة.
وأهلته خبرته التي اكتسبها من العمل مع "بتري" ليُعين، وعمره 25 عاماً، مفتِّشاً للآثار المصرية في صعيد مصر والنوبة ومقره الأقصر، كان ذلك عام 1899م.
وقد ساعده هذا المنصب على الإشراف على العديد من الحفريات، والاشتراك فيها، كما قام بنسخ العديد من الرسوم والصور الجدارية على جدران المعابد والمقابر المصرية، أهلته هذه المدة، التي قضاها في مصر، على تعلم مهارتين عظيمتين وهما: إتقان اللغة العربية التي ساعدته على التعامل مع الناس وعلى الاندماج في المجتمع المصري، ثم تعلَّم أصول اللغة المصرية القديمة وهو ما كان يحتاج إليه في عمله في الحفائر وفي حقل الآثار.
وكما تصعد الأقدار بالإنسان لأعلى قد تهبط به لأسفل، وفي كال الحالات هي مشيئة من يجري الأقدار، فقد حدث أن كان موجوداً في سقارة في عام 1903م، وكان السير "فلندرز بتري" مع زوجته وثلاث من السيدات يساعدنه في عمله عندما اقتحم خيامهم في المساء ثلاثة من الفرنسيين السكارى.
وأراد أحدهم أن يدخل خيمة النساء، فأسرع "بتري" إلى "هوارد كارتر"، الذي جاء ومعه بعض معاونيه من المصريين العاملين في مصلحة الآثار، ولم يتمالك "كارتر" نفسه فضرب أحد الفرنسيين، وأوقعه على الأرض.
وكان من نتيجة ذلك أن رفع هذا الفرنسي شكواه إلى القنصل الفرنسي، الذي خشي أن تصل هذه القصة إلى الصحف الفرنسية وتتسبب في أزمة له، فطلب من "كارتر" أن يعتذر للفرنسيين، فأبى كارتر أن يعتذر إيماناً منه أنه لم يخطئ.
وتدخَّل مدير مصلحة الآثار الفرنسي طالباً من كارتر أن يتقدم باعتذار شكلي حتى يمكن إنهاء المشكلة، فأصرَّ كارتر على عدم الاعتذار مؤكِّداً أنه كان يؤدي واجبه وأن الفرنسيين هم أولى بتقديم الاعتذار منه.
وتزايدت الضغوط على كارتر، وهو "راسه وألف سيف" ألّا يعتذر، فقد طلب مدير الآثار تدخل اللورد "كرومر" الحاكم الفعلي لمصر، الذي استدعى "كارتر" وأمره بالاعتذار.
وكانت المفاجأة أن استمر "كارتر" في إصراره على عدم الاعتذار أو الانحناء للفرنسيين السكارى.
فما كان من مدير مصلحة الآثار، إرضاءً للقنصل الفرنسي، إلى طرد "كارتر" من مصلحة الآثار، ليجد نفسه عاطلاً وعمره 29 عاماً فتوجه للإقامة في الأقصر التي يحبها.
ودفع "كارتر" ثمناً غالياً لموقفه هذا، فقد ظل طوال السنوات الأربع التالية يتنقل بين أكثر من عمل، فعمل مرشداً للأفواج السياحية يقف على باب فندق "وانتر بالاس" يبيع رسومه المائية، واشتغل بتجارة الآثار والتحف، وفي وقت الفراغ يتجول باحثاً عن الآثار الفرعونية. وساعده بتري فاستأجره حيناً، واستمر الصندوق البريطاني لاستكشاف مصر أو للبحث عن آثارها، ينشر رسوماته ويدفع ثمنها.
وخلال هذه الفترة حاول الحصول على ترخيص بالبحث عن الآثار، ولكن الفرنسيين الذين يرأسون مصلحة الآثار أَبَوا منحه الترخيص.
وينتقل كارتر للعمل مع المحامي والمليونير الأمريكي "تيودر دافيز" الذي حصل على ترخيص بالحفر في منطقة وادي الملوك عام 1902م دون أن يعثر على شيء جديد أو ملفت.
وكانت هذه الفترة، على قصرها، هي التي ساهمت في بزوغ نجم هوارد كارتر في سماء الآثار المصرية بفضل ما أكسبته من خبرة معرفة ودراية بالحفر وأماكنه.
وهكذا قد يكون في ثياب المحنة منحة، وكمال قال أحد الحكماء "ربما منعك فأعطاك وربما أعطاك فمنعك".