الثلاثاء 21 مايو 2024

القاهرة الخديوية «باريس الشرق»

الدكتور أحمد محمد على غباشى

ثقافة13-1-2023 | 14:04

أ.د. أحمد محمد على غباشي

بنت المعز القاهرة حتى الصباح ساهرة
جميلة رقيقه مسامرة 
ممتلئ ترابها بالنفحات العاطرة 
شامخة لا تنحني كبراً صبورة قادرة
كم هزمت ممالكاً و كم طوت جبابرة 
في كل شبر فوقها ذكرى تظل سافرة 
كم ظالم قد مر بى و ما أزال القاهرة .
القاهرة ... درة العواصم التي شيدها جوهر الصقلى لتكون حاضرة الخلافة الجديدة وتيمناً أن تكون مدينة تقهر الدنيا.
شهدت القاهرة العديد من مشروعات التطوير والتحديث عبر تاريخها ، لا سيما مع مطلع القرن التاسع عشر وولاية محمد علي باشا فى عام 1805 م، فكان أول ما قام به هو إزالة أنقاض ومخلفات الحملة الفرنسية ونقلها خارج المدينة، واختط الشوارع الجديدة الفسيحة  وأنشأ الأحياء الجديدة مثل شارع السكة الجديدة، الموسكى، الفجالة، شبرا، وأعاد العمران إلى جزيرة الروضة.
و من الأمور المستحدثة التي قام بها محمد على فى عام 1816 م، أنه أعد تجريدة من المهندسين للكشف على دور القاهرة فيأمرون بالإصلاح أو الهدم حسب حالة المبنى، كما أصدر أوامره بضرورة كنس الشوارع وإنارتها ووضع القناديل على أبواب المنازل.
و يذكر الرحالة "سان جون" في عام 1832م : كانت الشوارع فيما مضى قذرة ومقززة ولكنها الآن في الأغلب نظيفة بطريقه ملفتة للنظر، إذ يتم كنسها 3 مرات يومياً، ويتم تجميع القمامة في أكوام و تقوم أربعمائة عربة تجرها الثيران الصغيرة بنقل القمامة خارج المدينة.
و كذلك من الأمور الجديدة التي أدخلها محمد علي هي إطلاق أسماء على الشوارع بمدينة القاهرة وترقيم الدور، و كانت أسماء الشوارع تكتب على ألواح خشبية باللون الأحمر أو الأسود و تعلق على أول الشارع ، أما أرقام البيوت فكانت تكتب على باب البيت أو بجواره والمحلات ليس لها أي أرقام .
ولاية الخديوي إسماعيل و نقطة التحول 
كانت ولاية الخديو إسماعيل في 18 يناير 1863 م عاماً فارقاً و مهماً في تاريخ القاهرة، فاهتم إسماعيل بوضع مشروع شامل لتنمية المدينة و يحاكى نموذج تنمية المدن الغربى الذى أظهرت فيه أوروبا تفوقها ليستكمل البناء الحضارى الذى بدأه جده محمد علي باشا.
كان إسماعيل محباً للبناء والتجديد ذا طموح كبير للنهوض بأمته. فنظر إلى مدينة القاهرة فوجدها محصورة في أحضان المقطم بأحيائها القديمة و أزقتها الضيقة، فسعى إسماعيل إلى إنشاء حاضرة جديدة على الطراز الأوروبى.
و من هنا يتضح أن إسماعيل رمى إلى غرضين :- 
- إدخال ما يمكن إدخاله من إصلاح اجتماعي وصحي على قاهرة المعز مع إبقائها على ما هى عليه من ذاته.
- إنشاء قاهرة أخرى هي قاهرة إسماعيل مقامة على أحدث الطرز العصرية بشوارعها الفسيحة وميادينها الواسعة و قصورها الفخمة النبيلة.
فكان تحديث القاهرة بالنسبة لإسماعيل رمزاً لارتقاء مصر حضارياً و تجسيداً لرغبته العارمة في أن يشهد الغرب عاصمة أوروبية في القاهرة تحكم دولة عصرية على ضفاف النيل.
و لعل دراسة إسماعيل في فرنسا وتأثره بالثقافة والحضارة الفرنسية جعل النموذج الفرنسى هو النموذج الذي ترسخ في أذهان إسماعيل، فسعى  إلى إنشاء قاهرة جديدة على الطراز الفرنسي وهو ما دعاها "باريس الشرق".
و بدأ إسماعيل العمل في عام 1867م حينما استدعى المهندس الفرنسي "هاوسمان" الذي أنشأ غابة بولونيا بالقرب من باريس ليتولى هذا المشروع .
فكانت فكرة القاهرة الخديوية تعتمد على الشوارع المستقيمة المتقاطعة على زوايا قائمة ، و استخدام الطريقة الإشعاعية في تنفيذ الميادين ولعل ميدان الإسماعيلية (التحرير) خير مثال على ذلك.
و من الأمور التي استحدثها إسماعيل هو رصف الشوارع بالدقشوم والانارة بغاز الاستصباح و مد شبكة للمجارى العمومية ومواسير لمياه الشرب.
كما سعى إسماعيل إلى إنشاء الحدائق و المنتزهات العامة مثل حديقة الأزبكية، الأورمان وحديقة الأسماك. و شهدت القاهرة إنشاء عدد كبير من القصور العامرة مثل قصر عابدين، القبة، قصر الزعفران، سراى الإسماعيلية وغيرها من القصور. و لعل كوبري قصر النيل يعد معلماً فريداً لأول مرة في مصر وأول كوبرى يتم إنشاؤه في القرن التاسع عشر، بتماثيل السباع المميزة.
و أهم ما يميز القاهرة الخديوية والتي تمتد من ميدان الاوبرا إلى ميدان التحرير، هو تنوع  الطرز المعمارية والفنية والتي تمثل طرز عصر النهضة مثل الباروك والروكوكو فضلاً عن أنماط معمارية جديدة و لعل السبب في هذا التنوع المعماري و الفني في القاهره الخديوية هو اتجاه حكام أسرة محمد علي إلى الطرز الأوروبية، و توافد الجاليات الأجنبية إلى مصر مع مطلع القرن 19 وكان ضمن هذه الجاليات عدد من الفنانين والمعمارين الذين نقلوا العديد من التأثيرات الأوروبية و شكلت أعمالهم أيقونات مازالت إلى الآن علامات مميزة فى عمارة القاهرة، و علاوة على ذلك فقد تولى بعضهم مناصب حكومية مثل " انطونيو لاشياك" المعماري الإيطالي الأشهر والذى له النصيب الأكبر في عمارة القاهرة الخديوية، حيث تولى رئيس المعمارين للقصور الخديوية في عهد عباس حلمي الثاني.


الأزبكية كانت البداية
كانت نقطة البداية نحو مشروع إسماعيل لتحويل هذه البركة إلى "صرة" للعاصمة الجديدة، فقال إسماعيل للمهندس الفرنسى:
"أريد الأزبكية قطعة من باريس تجمع بين جمال حدائق غابة بولونيا و بين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها "
فكانت البداية ردم بركة الأزبكية في عام 1864 م، و أنشئت حديقة الأزبكية في عام 1872م بتكليف إسماعيل للمهندس الفرنسى "باريل ديشان" على نفس طراز حديقة ريفولي بباريس على مساحة 20 فدانا، و غرس بها مجموعة من أندر أنواع الأشجار، فعلى شرف الأمبراطورة "أوجيني" غرست شجرة أطلق عليها "أوجينا" و شجرة شعثاء أطلق عليها "واشنطونيا" تكريماً لاسم جورج واشنطن.
و في عام 1873م أقيم تمثال الجنتكمان "إبراهيم باشا" والد الخديو إسماعيل و الذي نفذه المثال الفرنسى "كورديه" و من المبانى التى اشتمل عليها ميدان الأزبكية، دار الأوبرا الخديوية والتي أنشأها إسماعيل بمناسبة افتتاح قناه السويس، وتم إنشاؤها على الطراز الإيطالي (على طراز أوبرا لاسكالا في ميلانو) من تصميم المعمارى الإيطالي "بيترو أفوسكانى" و تم افتتاحها في الأول من نوفمبر 1869م بعرض أوبرا "ريجوليتو" ( يشغلها الآن جراج الأوبرا) .
و يعتبر "قصر عابدين" هو السمة المميزة لوسط القاهرة و الذى أصبح مقراً للحكم بعد قرون طويلة كان في القلعة، وأصبح عابدين قبلة المصريين طلباً للعون و المساعدة، فكان قصر عابدين شاهداً على عصر أسرة محمد علي .
ومن الميادين المهمة في وسط القاهره ميدان "مصطفى كامل" والذي يتوسطه تمثال الزعيم "مصطفى كامل" للمثال الفرنسي "ليوبولد سافان" والذى يعتبر أول تمثال بالاكتتاب العام. ثم ميدان "محمد فريد" شريك مصطفى كامل في الكفاح الوطني وخليفته في رئاسة الحزب الوطنى، ويضم هذا الميدان المبنى الرئيسي لبنك مصر، وهو تحفة معمارية من أعمال "أنطونيو لاشياك" على الطراز الإسلامى.
مروراً بميدان طلعت حرب والذي يتوسطه تمثال "طلعت باشا حرب" مؤسس الاقتصاد المصرى الحديث. وكان من قبله يسمى ميدان "سليمان باشا" نسبة إلى مؤسس العسكرية المصرية الحديثة "سليمان الفرنساوى" حيث كان يشغل تمثاله الميدان قبل تمثال "طلعت باشا حرب" 
و نصل أخير إلى قلب العاصمة، ميدان الإسماعيلية (التحرير) والذى يضم العديد من المبانى التاريخيه المهمة مثل المتحف المصرى، مسجد عمر مكرم، وزارة الخارجية القديمة (قصر الأميرة نعمة الله توفيق)، سراى الإسماعيلية (مجمع التحرير)، سراي جناكليس (الجامعة الأمريكية) وصولاً إلى كوبري قصر النيل الذى تم افتتاحه عام 1872م وهو من تصميم شركه فرنسية تسمى "فيف ليل"
القاهره في عصر إسماعيل كانت مساحتها 3 أضعاف مساحه باريس، إنها كانت في جمال أبدع من أحياء باريس وغابة بولونيا، و القسطنطينية كانت تتضاءل بجوارها، والأزبكية أزهى حدائق الدنيا و دار الأوبرا من أكثر دور الموسيقى والتمثيل سعة وفخامة.​