لكل شارع من شوارع مصر المحروسة حكاية وتاريخ وشخصيات بارزة في التاريخ المصري لها دور مؤثر في مجالها، وهو ما دفع الجهاز القومي للتنسيق الحضاري إلى إطلاق مشروع للتعريف بتاريخ الشخصيات المؤثرة التي أطلقت أسماؤها على بعض الشوارع ومن ضمن هذه الأسماء إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن أيوب الشهير بأبو الفداء الذي يحمل أحد شوارع منطقة الزمالك بالقاهرة أسمه ويعد أشهر شوارع الزمالك.
ووفقًا لجهاز التنسيق الحضاري ولد أبو الفداء في دمشق عام 1274م، حينما فرت عائلته من حماة إثر إحاطة المغول بها، وقد بدأ حياته في حماة بعد عودة أمه، وهو في شهوره الأولى، وهو من سلالة الأيوبيين، كُني منذ صغره بأبي الفداء ولقب بعماد الدين، ويطلق عليه ملك أو صاحب حماة في سوريا، والملك المؤيد.
ثم انطلق إلى الدراسة والثقافة والإطلاع والممارسة والتدريب على فنون القتال والقنص والفروسية، فحفظ القرآن الكريم مبكرًا مع عدد من كتب التراث، وأصبح منذ صغره مولعًا بالعلوم والآداب، ودرس الفقه والتفسير والنحو والمنطق والطبّ والتاريخ والعروض، وقد أكسبه ذلك العقل الراجح والحكمة، والخلق الرفيع، والشجاعة والكرم.
أبو الفداء ملكًا على حماة
رحل أبو الفداء إلى مصر فاتصل بالسلطان المملوكي الناصر، فأحبه الناصر وأقامه ملكًا مستقلاً في حماة ليس لأحد أن ينازعه السلطة، وأركبه بشعار الملك، فانصرف إلى حماة، فقرب العلماء ورتب لبعضهم المرتبات، وحسنت سيرته.
استطاع بحنكته وصبره ودرايته وشجاعته استعادة ملك حماة، وأن يعيد الدولة الأيوبية فيها بعد أن أُبعدت عنها اثنتي عشرة سنة، وأن يخرج منها عاملها مُرغمًا؛ فكانت له اليد الطولى في مدّ عمـرها فيها إلى سنة 742هـ، أي إلى بعد نحو قرنٍ من الزمان من سقوط الدولة الأيوبية في مصر، فقد قضى المماليك على الدولة الأيوبية في مصر في سنة 648هـ، وقضوا عليها في الشام في سنة 658هـ، وأصبح سلطان مصر والشام من المماليك، وكان يرسل مَنْ حوله، من أمراء المماليك نوابًا عنه إلى مدن الشام كدمشق وحماة وحمص وحلب والساحل.
وكانت حماة مطمح أنظار هؤلاء الأمراء نظرًا لتوسطها بين بلاد الشام ولتقدمها العمراني والعلمي والاقتصادي، بفضل الملوك الذين تعاقبوا عليها من الأيوبيين.
وكان السلطان الناصر يطلبه إليه، بعد أن أصبح ملكًا لحماة، ليكون سميرًا له في مجلسه، ورفيقاً له في صيده، وعندما ذهب إلى الحج اصطحبه معه، ومن شدة إعجابـه بـه، بعد أن ولاّه نائبًا له في حمـاة في سـنة 710هـ، جعله ملكًا عليها في سنة 712هـ، ثم سلطان حماة في سنة 720هـ، كل ذلك يدل على مدى ما كان يتحلى به أبو الفداء من الآداب والعلوم والأخلاق، حتى إنه لشدة كرمه وعزته بنفسه كان يقبل هدايا السلطان وصدقاته، ولكنه كان سرعان ما يرسل إليه مقابلها بالهدايا والتقدمات.
أعماله في حماة
اعتنى أبو الفداء بمدينة حماة، وبنى وحسن العديد من مبانيها، ولعل من أبرز المنشآت التي خلفها أبي الفداء في عاصمة ملكه حماة “جامع الدهشة” وهو جامع أبي الفداء نفسه، وقام أبي الفداء بتشييد ضريح له في شمالي جامعه وشيد فوقه قبة وبجانبها مئذنة مثمنة
ثم قام بعد ذلك ببناء المربع والقبة والحمام والناعورة غربي الجامع على ساقية نحيلة، وجاء هذا كله من أنزه الأماكن وأسماها، وأطلق عليها جميعًا اسم الدهيشة، وذلك لأن الناظر أو الداخل إليها تأخذه الدهشة والحيرة والذهول لما يشاهد من جمال الموقع وإحكام البناء وحسن الهندسة وبديع الزخرفة
وقد تعاقبت الدهور والأعوام على المربع والقبة والحمام فاندثرت، ولم يبق من الدهيشة إلا جامعها وناعورتها، وهما كافيان وافيان لإعطاء صورة الأمس الرائع
لم يقف عمران أبي الفداء عند الدهيشة بل امتد إلى الجامع النوري وأضاف إليه كتلة بناء في شرقه وجعله مدرسة لتدريس الفقه الشافعي، وسمي هذا الملحق بالـروشن بعد أن أبقى تحته قبوًا لمسير الناس وجلله ببناء رائع يشرف على أجمل مناظر العاصي والنواعير
علمه وكتبه
لقد كان أبي الفداء رجلاً جامعًا لأشتات العلوم، وقد صنف في كل علم تصنيفًا أو تصانيف، وترك للمكتبة العربية بخاصة والإنسانية بعامة 12 كتاب طبع منها ثلاثة كتب نالت شهرة عالمية كبيرة وهي:
المختصر في أخبار البشر، في التاريخ، والمعروف بكتاب (تاريخ أبي الفداء)
تقويم البلدان، في الجغرافيا، طبع عدة طبعات في أوروبا وسمي (جغرافيا أبي الفداء)، ومن خلال هذين الكتابين غدا أبي الفداء واحدًا من أعظم رجال التاريخ والجغرافيا في تاريخنا العربي والتاريخ الإنساني، فظهرت عشرات الدراسات والأبحاث الأكاديمية في روسيا وفرنسا وإنجلترا وبلجيكا وإيطاليا وغيرها عن أبي الفداء وأبحاثه في الجغرافيا والتاريخ والفلك.
الكُنّاش، وهو لفظ سرياني الأصل معناه المجموعة أو التذكرة، وهو يشتمل على عدة كتب، منها كتاب في النحو والتصريف، ويشهد هذا الكتاب لمؤلفه بالاطلاع الواسع، والعلم الغزير، والقدرة الفائقة على الجمع والتأليف، وجمع فيه أهم مسائل النحو والتصريف.
وفاته
حينما قام أبي الفداء بتشييد ضريحه شمالي جامعه وشيد فوقه قبة وبجانبها مأذنة مثمنة، وحين سُئل عن بناء الضريح أجاب: “ما أظن أني أستكمل من العمر 60 سنة فما في أهلي من استكملها”، وقد صدق حدس أبي الفداء، فلم يكمل الـ60 من عمره، وفارق الحياة في 23 محرم 732هـ، الموافق 27 أكتوبر 1331م. ودفن في ضريحه الذي أعده لنفسه قبل موته بـ 5 أعوام.