يُعد معرض القاهرة الدولي للكتاب ركيزة أساسية في تعزيز الأمن الفكري داخل المجتمع المصري؛ إذ تخطى دوره كونه أحد أبرز الفعاليات الثقافية في العالم العربي، وأهم ملتقى للمثقفين والقراء والناشرين من مختلف الأجناس، وأصبح منوطًا به القيام بدورٍ فعّالٍ ومحوري في نشر الوعي الثقافي والمساهمة في البناء الفكري للمصريين، خاصة الشباب منهم، مما جعله أحد النوافذ الثقافية الفعّالة التي يعول عليها في تحقيق أمن المجتمع الفكري.
لم يعد تحقيق الأمن الفكري مسئولية الجهات الأمنية فقط، بل هو في الأساس مسئولية المجتمع بمؤسساته كافة، ولعل معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب أحد النوافذ المهمة والفعّالة التي تستثمرها وزارة الثقافة المصرية للقيام بدورها في الحفاظ على المنظومة الثقافية والفكرية للمجتمع المصري والحفاظ على أمنه واستقراره عن طريق تعزيز أمنه الفكري الذي يُعد من أهم مقومات الأمن الشامل، بل وأهم أنواعه؛ نظرًا لارتباطه بالفكر الذي يتشكل على أثره السلوك الإنساني.
يدفعنا هذا إلى أن نضع آمالًا كبيرة على معرض الكتاب في دورته السادسة والخمسين للمساهمة بدور أكبر في المحافظة على الهوية المصرية وشخصيتها الحضارية بمنظوماتها الثقافية والفكرية والقيمية المختلفة، وأن يكون أحد أهم أدوات ووسائل إنجاح الإستراتيجية المصرية لتحقيق الأمن الفكري خاصة لدى الشباب الذين كلما زاد وعيهم وإدراكهم، توطد انتماؤهم وولاؤهم للمجتمع وأصبحوا أكثر حرصًا على حمايته من الأفكار الهدّامة.
مفهوم الأمن الفكري وأهميته
على الرغم من حداثة استخدام مصطلح الأمن الفكري وتعدد مفاهيمه، فإنه قديم من حيث مضمونه ومفهومه المتمثل في محاربة التطرف الفكري بأنواعه كافة بهدف حماية أمن المجتمع وثقافته النوعية ومنظومته الفكرية؛ حيث يُعد الانحراف الفكري ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان نفسه، مهما تعددت مظاهرها وصور التعبير عنها، ووسائل مواجهتها؛ ومن ثم مثل تحقيق الأمن الفكري هدف للمجتمعات المختلفة عبر التاريخ الإنساني.
ويعني الأمن الفكري حماية الهوية الثقافية والمنظومة الفكرية والأخلاقية للمجتمع من الاختراق الثقافي والفكري، سواء كان داخليًا أو خارجيًا، إضافة إلى ضمان سلامة عقل الفرد وحصانة فكره من الانحرافات الفكرية من أجل تحقيق التوازن الفكري الذي يرسخ بدوره الشعور بالولاء والانتماء إلى المجتمع. وبناء عليه، فإن الأمن الفكري في النهاية يهدف إلى صون كيان الأمة وسيادتها وتعزيز تميزها عن غيرها من الأمم؛ حيث إن الحضارات تُقاس بعقول أبنائها وصحة أفكارهم ومعتقداتهم ومدى تماسكها وترابطها، وبقدرتهم أيضًا على تشكيل حائط صد أمام محاولات اختراق بنائهم الثقافي والفكري بأي أفكار متطرفة أو خبيثة تهدف إلى تهديد أمن المجتمع واستقراره.
اتساقًا مع مفهوم الأمن الفكري وأهدافه، نجد أنه يحتل صدارة أولويات أي مجتمع؛ نظرًا لارتباطه الوثيق بقدرة الدولة على تحقيق الأمن الشامل بمختلف أنواعه من أمن اقتصادي وسياسي واجتماعي وأخلاقي ونفسي، وباعتباره الوسيلة الفعّالة لمكافحة الانحراف الفكري والتطرف والإرهاب، ومحاربة دعاة الغلو والعنف؛ ومن ثم فإن تحقيق الأمن الفكري يساعد في تحقيق الأمان العقلي وتوفير بيئة فكرية آمنة تشجع التفكير النقدي والإبداعي، كما أنه يعزز الاستقرار والتماسك المجتمعي ويعزز مناعة المجتمع ضد الانحرافات الفكرية ويزيد قدرته على مواجهتها حتى وإن اختلفت أساليبها.
معرض الكتاب ودوره في الحفاظ على الصحة الثقافية والفكرية والقيمية
لا يمكن مواجهة الفكر المنحرف والمتطرف ومحاربة الأفكار الهدّامة بدون تحقيق ما يمكننا أن نطلق عليه الصحة الثقافية والفكرية والقيمية؛ إذ تنبع أسباب الانحراف الفكري –في الأغلب– إما من غياب البناء الفكري والقيمي لدى الفرد، أو من تشوه هذا البناء الذي ينتج عنه فهمًا خاطئًا للدين أو خللًا في الوعي السياسي أو قصورًا في التفاعل الاجتماعي أو حتى اضطرابًا نفسيًا ما قد يدفع صاحبه إلى تبني أفكار هدّامة تملأ هذا الفراغ الفكري لديه، والتي تتحول بدورها مع مرور الوقت إلى سلوك يهدد الأمن والسلام المجتمعيين. ونظرًا لأن الأفكار الهدّامة تنتقل بسرعة بين الأفراد حال غياب أو خلل المنظومات الثقافية والفكرية والقيمية لديهم، لذا فمن المهم تكثيف الجهود المبذولة للحفاظ على سلامة هذه المنظومات في المجتمع.
في الحقيقة، أسهم معرض القاهرة الدولي للكتاب طوال تاريخه الممتد على مدار ستة وخمسين عامًا بدورٍ محوري في الحفاظ على سلامة المنظومات الثقافية والفكرية والقيمية المصرية من خلال دوره في نشر الوعي الثقافي والمجتمعي وبناء رصيد فكري لدى المصريين وخاصة الشباب منهم، إضافة إلى دوره في الاحتفاء بالتراث الثقافي الغني للشعب المصري، كما مثَّل المعرض دائمًا منبرًا للحوار والنقاش من خلال ما قدمه من ندوات ولقاءات ونقاشات جمعت بين المثقفين والمفكرين وزوار المعرض من القراء؛ ومثل أيضًا منصة للإبداع أتاحت للكتّاب والناشرين العرب الفرصة لعرض أعمالهم أمام جمهور واسع ومتنوع، وشجعت في الوقت نفسه على ظهور مواهب جديدة من خلال الفعاليات التي سلطت الضوء على الكتّاب الشباب وتجاربهم الأدبية وأفكارهم المختلفة. وفي ظل مخاطر انتشار الأفكار المتطرفة، لعب معرض الكتاب دورًا مهمًا في تقديم البدائل الفكرية المعتدلة من خلال دعم الكتب الفعّاليات التي تناقش قضايا التطرف والعنف، وتقدم رؤى فكرية إصلاحية مبنية على الوسطية التي تميز منظوماتنا الثقافية والفكرية والقيمية.
وحاول القائمون على تنظيم المعرض في الوقت نفسه مواكبة التطور التكنولوجي لتعظيم دوره في التأثير الثقافي على الشباب من خلال إطلاق موقع إلكتروني للمعرض يقدم معلومات شاملة عن فعاليات المعرض ودور النشر المشاركة فيه وما تعرضه من كتب مختلفة، ويتيح حجز التذاكر إلكترونيا، ويستخدم أيضًا تقنيات الواقع المعزز والافتراضي لتقديم جولات افتراضية داخل المعرض. إضافة إلى ذلك، نظم المعرض بعض الفعاليات الإلكترونية وخصص بعض الأجنحة لعرض أحدث تقنيات صناعة الكتاب الرقمي والقراءة الذكية، كما شجع الفعّاليات المتعلقة بالنشر الرقمي وبمشاركة الشباب في تطوير التقنيات المتعلقة بصناعة النشر الرقمي. ويسهم هذا كله بالتأكيد في الحفاظ على استمرارية دور المعرض في التواصل مع الشباب والقيام بدوره في إثراء الوعي الثقافي والمجتمعي لديهم، ولكنه غير كافي في ظل التحديات الحالية التي تواجه المعرض.
معرض الكتاب بين التحديات وضرورة تبني استراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الفكري
هناك عدد من التحديات التي تواجه تحقيق أهداف معرض الكتاب في تحقيق الأمن الفكري، ولعل من أهمها: الغزو الرقمي وسهولة انتشار المعلومات المغلوطة، مما يتطلب تعزيز دور المعرض في نشر المصادر والمراجع العلمية الموثوقة؛ إضافة إلى ضعف الإقبال من قبل الشباب على القراءة وزيارة المعرض، وهو ما يمثل تحديًا يستوجب ضرورة تنويع الطرق المستخدمة لحث الشباب على القراءة وتشجيعهم على المساهمة في فعاليات المعرض؛ وأخيرًا زيادة تكاليف النشر الورقي مما يجعل من الصعب توفير كتب متنوعة ورخيصة الثمن تناسب احتياجات الشباب.
ولمواجهة هذه التحديات التي قد تفقد معرض الكتاب جزءًا مهمًا من دوره حال عدم معالجتها، نوصي بضرورة تبني المعرض استراتيجية وطنية واضحة تهدف إلى تحقيق الأمن الفكري ومحاربة الغلو والتطرف الفكري والإرهاب بأنواعه كافة، وتعزيز الفكر الوسطى المعتدل خاصة لدى الشباب من خلال احتوائهم وفتح مزيد من قنوات التواصل الفعّال معهم وإتاحة فرص الحوار الحر والهادف أمامهم؛ حيث إن ذلك يسهم في الاكتشاف المبكر لأي خلل أو انحراف فكري، ويساعد على تقويمه ومعالجته، ولعل هذا يتحقق بتنفيذ التوصيات التالية:
- تشجيع دور النشر المختلفة على توجيه مزيد من الاهتمام للنشر الرقمي والتوسع في صناعة نشر الكتب المسموعة؛ نظرًا لإقبال كثير من الشباب عليها حاليًا كبديل عن الكتاب الورقي المطبوع.
- توفير منصات رقمية موازية للمعرض لتنظيم لقاءات وحوارات مفتوحة بين المفكرين والمثقفين والشباب بهدف التعرف على أفكارهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم، وتحليلها.
- تفعيل الفعّاليات الرقمية بشكل كاف، بحيث يتم نقل الندوات واللقاءات والنقاشات كافة التي تدور في معرض الكتاب عبر الموقع الإلكتروني للمعرض ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، بهدف جذب مزيد من الشباب للمشاركة في فعاليات المعرض؛ نظرًا لما تلعبه هذه المنصات من دور محورى في تشكيل ثقافة الشباب وفكرهم في الوقت الراهن.
- تبني برنامج شامل لتعريف الشباب بمهددات الأمن الفكري، وعلى رأسها حروب الجيل الرابع التي تستهدف الشباب وتستغل شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها بغية هدم هويتهم الثقافية وتشويه بنائهم الفكري وتوجيه أفكارهم يما يتماشى مع الفكر المتطرف والهدّام ودفعهم لتبني سلوكًا معاديًا للمجتمع واستقراره وأمنه.
- وأن يتضمن هذا البرنامج فعاليات تهدف إلى تنمية الوعي الوطني لدى الشباب وتعريفهم بخطورة التعصب الفكري والانغلاق العقلي وعدم تقبل الرأي الآخر، وما ينتج عنه من تشدد وتطرف ديني.
- التنسيق مع المؤسسات التعليمية المختلفة للقيام بزيارات مجانية للمعرض، وعقد ورش عمل للطلاب حول موضوعات الأمن الفكري وقضاياه المختلفة.
- توفير التغطية الإعلامية للفعاليات والأنشطة المتعلقة بالأمن الفكري.
في الختام، نعيد التأكيد على أن معرض القاهرة الدولي للكتاب ليس مجرد فعالية ثقافية ومعرضًا لعرض الكتب، ولكنه نافذة لنشر الثقافة وتعزيز الوعي الثقافي والمجتمعي لدى الشباب، والمساهمة في بناء مجتمع آمن ومتماسك فكريًا؛ ولذلك فإن معرض الكتاب يمتلك أدوات ووسائل عدة يمكن أن يلعب من خلالها دورًا أكثر فعّالية في تحقيق الأمن الفكري ومحاربة الغلو والتطرف بأنواعه كافة.