أكدت دراسة بالمعلومات والوثائق أن استهداف النظام التركي
الحالي بقيادة أردوغان لحركة الخدمة يأتي في إطار خطة مدروسة وممنهجة يرجع تاريخها
إلى 21 عامًا وتحديدًا إلى ما سمي بـ”انقلاب 28 فبراير 1997 الناعم”، وأن ما فعله أردوغان
من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته في 15 يوليو 2016 ثم اتهام حركة الخدمة بتدبيره
ليس إلا “تتمة دموية” لذلك الانقلاب في 1997. كما يبين أيضا على لسان رئيس الأركان
الأسبق “إلكر باشبوغ” المتهم في قضية أرجنكون سبب قيام أردوغان “الإسلامي” بهذا العمل
بقوله :”أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله كولن، ولولاه لما قطعنا شوطًا
بعيدًا في هذا الصدد”.
ويسرد التقرير تفاصيل هذه الخطة من الألف إلى الياء، ويوضح
سبب استهداف الخدمة دون غيرها من سائر الحركات.
هذه الدراسة محاولة لإزاحة الستار عن خيوط الانقلاب الفاشل
الذي شهدته تركيا في 15 يوليو 2016 وأسفر عن خضوع 402 ألف شخص لتحقيقات جنائية، واعتقال
ما يقارب 80 ألفًا، بينهم 319 صحفيًا، وإغلاق 189 مؤسسة إعلامية، وفصل 172 ألفًا من
وظائفهم، ومصادرة 3003 جامعة ومدرسة خاصة ومساكن طلابية، بالإضافة إلى وفاة نحو
100 شخصًا في ظروف مشبوهة أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار
عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد، وفق التقارير الأخيرة التي نشرتها المنظمات
الدولية ومنها تقرير منظمة العفو الدولية مطلع شهر مايو 2018، علمًا بأن هذه الأرقام
قابلة للتغيير نظرًا لاستمرار العمليات الأمنية بتهمة المشاركة في الانقلاب على الرغم
من مرور عامين كاملين على وقوعها.
أولاً: الخدمة في مرمى الانقلابيين منذ 1997
عديد من الباحثين والكتاب يعيدون جذور انقلاب 15 يوليو 2016
إلى ما سمي بـ”انقلاب 28 فبراير 1997 الناعم”، أو بشكل مختصر “عملية 28 فبراير الانقلابية”
قبل 21 سنة(1)، التي استهدفت الحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه “الإسلامي” وحزب الطريق
القويم “اليميني” في الظاهر وإن كان المجتمع المدني هو هدفها الأساسي.
قد يبدو الأمر نوعا من المبالغة، لكن إذا تابعنا بدقة التصريحات
التي أدلى بها القائمون على هذا الانقلاب قديمًا وحديثًا فسندرك صحة هذا التشخيص، ويتبين
لنا أن ما فعله أردوغان من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته ليس إلا “تتمة دموية” لذلك
الانقلاب في 1997.
1ـ بعض التصريحات التي تؤكد ذلك
لقد أعلن رئيس الأركان عام 1997 “حسين كفريك أوغلو” أن “عملية
28 فبراير/ (الانقلابية) ستستمر لألف سنة قادمة”(2).
إن حجم الضرر الذي تعرض له المجتمع المدني بكل أطيافه من
انقلاب 1997 أكثر بكثير من الضرر الذي تعرضت له الحكومة آنذاك والتي خضعت للضغوطات
العسكرية ووافقت على تطبيق ما سمي حينها “قوانين مكافحة الرجعية الدينية”(3)، وهي ذاتها
القوانين التي أعلن زعيم حزب الوطن اليساري العلماني المتطرف “دوغو برينتشاك” أنه من
حرر نصوص 11 مادة من مواد هذه القرارات ووقع عليها رئيس الحكومة آنذاك نجم الدين أربكان
بإرادته المحضة،(4) على حد قوله.
كما صرح “دورسون تيتشاك”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في
الجيش سابقًا، وأحد المتهمين في إطار قضية أرجنكون، لصحيفة (حريت) في شهر مارس/آذار
من عام 2016 أن “الهدف الأساسي من انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 كان الرجعيةَ الدينية
والمقصود بها 80% حركة الخدمة وباقي النسبة للحركات والجماعات الدينية الأخرى.”(5).
وما كتبه برينتشاك الذي كان أكبر الداعمين لانقلاب 1997 في صحيفة “آيدينليك” في 25
يناير/كانون الثاني 2017 يؤكد ما قاله الجنرال تيتشاك من أن: “عملية 28 فبراير/ شباط
(الانقلابية) استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلّر (الائتلافية مع أربكان)،
وأن تشخيص خطورة هذا التنظيم للجمهورية التركية لعب دورًا مهمًّا في هذه العملية”(6).
ومن ثم ينتقل برينتشاك إلى هذه الأيام ويؤكد أن “تركيا عادت
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى برنامج عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية)
عقب تعرضها للانقطاع”(7). ويعني برينتشاك “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” حركة التصفية
الشاملة التي انطلقت في صفوف الجيش والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية، والتي
أكد برينتشاك أنه هو ورفاقه من أعدوا قائمة الأسماء الواجب تصفيتها.
ويصب في هذا الاتجاه
أيضًا تصريحات نائب رئيس حزب الوطن “نُصرتْ سنيم” حيث قال: “قرارات 28 فبراير/ شباط
(الانقلابية) لم تتخذ ضد نجم الدين أربكان. بل كان هدفها الحقيقي هو تانسو تيشلّر
(زعيمة حزب الطريق القويم شريكة الحكومة الائتلافية مع أربكان) وحليفها تنظيم فتح الله
كولن…”(8).
ويعزز هذا أيضًا
رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ” الذي سبق أن سجن في إطار قضية أرجنكون
فقد قال: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا
في هذا الصدد”(9). وسبب ذلك يفسره الكاتب الصحفي من جريدة آيدينليك “صباح الدين أونكبار”
بقوله: “بغضّ النظر عن حبكم أو كراهيتكم للرجل، فإن أردوغان كان الترياق الشافي لسمّ
تنظيم فتح الله كولن… ولا يمكن لأحد إطلاقًا أن يحل محله في هذا الأمر. تخيلوا أن الآلاف
من النساء المحجبات من هذا التنظيم قابعات في السجون! لو لم يكن أردوغانُ الحاكمَ في
تركيا اليوم لكانت هناك دعاية بأن هذه الخطوة هدفها معاقبة النساء المحجبات. لذا فإن
الطريقة التي يتبعها أردوغان مهمة للغاية للنجاح في تصفية تنظيم كولن…!”(10).
وإذا علمنا أن
القوى التي حرضت ونفذت انقلاب 1997 هي عينها التي تقود اليوم الحرب الشاملة ضد حركة
الخدمة مع حليفها أردوغان من خلال “حالة الطوارئ” التي أعلنت بعد الانقلاب المزعوم،
ثم اكتسبت صفة دائمة في البلاد، فإنه من السهولة بمكان أن نستنتج أن انقلاب 2016 ليس
إلا امتدادًا لانقلاب 1997 وأن حركة الخدمة هدف هذين الانقلابَينِ الغاشمَينِ.
2ـ من وراء الانقلابَيْن؟
لا يمكن استيعاب
حقيقة الانقلاب الفاشل من دون معرفة “العصابة” التي تقدم نفسها وكأنها “الدولة العميقة”
في تركيا. هذه العصابة تولدت من رحم “دائرة العمليات الخاصة” التي شكّلها حلف شمال
الأطلسي ضمن وحدة القوات الخاصة للجيش التركي بشكل سري، مثلما شكل نظائرها في جميع
الدول الأعضاء أثناء الحرب الباردة (1947 -1991) لتكون سدًّا منيعًا أمام أطماع الاتحاد
السوفيتي التوسعية. فلما اتخذ الناتو قرارًا بتصفية هذه الدائرة وأمثالها في الدول
الأعضاء في سبعينات القرن الماضي قاوم ذلك بعضُ عناصر “الفريق” الذي أشرف على عمل هذه
الدائرة وألقى بنفسه في أحضان المعسكر الأوراسي، وجعل من عناصر تلك الدائرة المدربين
على الحرب غير النظامية وأموالها ونفوذها عصابة أو تنظيمًا سريًّا يمسك بزمام الأمور
من وراء الحجب. وقد ذُكرت هذه العصابة السرية بأسماء مختلفة كـ”الكيان العميق” و”كونتر
غريلاّ” قبل تسعينات القرن الماضي، وعصابة “أرجنكون” بعد هذا التاريخ حتى اليوم. تسللت
هذه العصابة إلى مواقع حساسة في أجهزة الدولة، خاصة في المؤسسة العسكرية، من أجل تكوين
قوة تمكنها من “الانفلات من قيود الدستور والقانون” و”الحصول على امتيازات خاصة”، و”تبرير
أعمالها المارقة”، من خلال استخدام أساليب مافيوية من قبيل التهديد والوعيد والقتل
والاغتيال والابتزاز والضغط والفوضى والبلبلة وغيرها.
عديد من الباحثين
والكتاب يعيدون جذور انقلاب يوليو/تموز 2016 إلى”انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الناعم”،
أو بشكل مختصر “عملية 28 فبراير الانقلابية” قبل 21 سنة.
هذه العصابة التي
تضمّ أذرعًا كثيرة كـ “الأخطبوط” خلقت “خطر الشيوعية واليسارية” ووظفته في إعادة تصميم
أجهزة الدولة وشرائح المجتمع المدني، كما كانت عاملاً رئيسيًّا في دفع المؤسسة العسكرية
إلى القيام بانقلابات عسكرية في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي للقضاء على الصراعات
التي كانت تحدث بين تنظيمات ومجموعات تابعة لها تبدي العداء والكراهية لبعضها البعض
مع أنها إنتاج مصنع واحد. وعندما زال خطر الشيوعية بعد الحرب الباردة في تسعينات القرن
الماضي احتاجت هذه العصابة إلى ذريعة جديدة لكي تستمر في عملية تصميم الدولة والمجتمع،
فوجدت ضالتها فيما وصفته بـ “الرجعية الدينية” تزامنًا مع الموجة الإسلامية التي أثارتها
الثورة الإيرانية “الإسلاموية” في طول العالم الإسلامي وعرضه وفي المقدمة تركيا(11).
لكن بالتزامن مع
زيادة أنشطة العصابة عقب خروجها عن الإطار القانوني بالكلية، خاصة بعد الاغتيالات الصاخبة
وآلاف الجنايات مجهولة الفاعل في شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، أبدى كثير من السياسيين
والعسكريين والبيروقراطيين انزعاجهم منها، وعلى رأسهم رئيس حكومة حزب اليسار الديمقراطي
“بولنت أجاويد”، ورئيس حكومة حزب الوطن الأم “طرغوت أوزال” الذي قتل مسمومًا، والقائد
العام لقوات الدرك الجنرال “أشرف بتليس” الذي اغتيل في تسعينات القرن الماضي، ورئيس
شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات “هرم عباس” الذي كان يقود مشروع “إضفاء الطابع
المدني على المخابرات” بأمر من أوزال، وقضى نحبه إثر عملية اغتيال أيضًا على يد هذه
العصابة. بل أبدى رئيس الأركان العامة الأسبق كنعان أفرين الذي انقلب على الحكومة في
1980 استياءه من أنشطتها كذلك، إذ كتب في مذكراته أنه بعد أن تسلّم رئاسة الأركان العامة
وجه دائرة العمليات الخاصة المذكورة للقيام بوظيفتها الأصلية، وأكد للمشرفين عليها
أنه لا يريد أن يسمع مرة أخرى حديثًا عن تنيظم “كنتر غيريلا”، الاسم الذي كان أطلق
في ذلك الوقت على هذه العصابة(12).
في 3 نوفمبر/تشرين
الثاني 1996، أي قبل سنة واحدة من انقلاب 1997 الناعم على حكومة حزب الرفاه بقيادة
نجم الدين أربكان، وقعت فضيحة “سوسورلوك” المرورية الشهيرة التي أظهرت إلى العلن لأول
مرة العلاقات القذرة بين ثلاثي “الدولة-السياسة-المافيا”، أو بعبارة أخرى “عصابة أرجنكون”(13)،
الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا لدى قادتها من العسكريين والمدنيين ودفعهم إلى التفكير
في إعادة هيكلة الدولة والمجتمع لكي يستمر حكمهم في البلاد من وراء الستار وإن كانت
في الواجهة حكومات منتخبة ديمقراطيًّا.
حركة الخدمة تلتزم
بمعارف الوحي الأصليةً، وتتفاعل مع الحداثة والديمقراطية وتقبل الاجتهادات والتفسيرات
الجديدة، وتتبنى “الانفتاح” و”الحوار” مع “الآخر” .
ثانيًا: لماذا
الخدمة؟
لم يكن هدف عصابة
أرجنكون التي دبرت وحرضت على انقلاب 1997 هو القضاء على حكومة “أربكان”، كما ذكرنا
أعلاه، بل دأبت على استغلال الصراع بين ممثلي “الإسلام السياسي” و”العلمانيين” لقمع
ما يمكن التعبير عنه بـ “الإسلام المدني” طيلة تاريخ الجمهورية الوليدة. فهذه العصابة
كانت تضع أمام القيادات المتنفذة في الجيش وأجهزة الدولة الحساسة فزاعة “الرجعية الدينية
الساعية إلى هدم أسس الدولة العلمانية”، محاوِلةً تجسيدها في “حركة الخدمة”.
أما لماذا وقع
اختيارها على الخدمة بالذات لتمثل هذه الفزاعة التي يحتاجونها فيمكن أن نرجع ذلك للأسباب
التالية:
1ـ انتشار الخدمة
الواسع داخليًّا وخارجيًّا
لقد وقع اختيار
عصابة أرجنكون على الخدمة بالذات دون غيرها من سائر الحركات نظرًا لانتشارها الواسع
في الداخل والخارج وتناسبها مع حجم “الخطر” و”التهديد” الذي صوروه وضخموه في أذهان
الرأي العام من أجل اختلاق الذريعة اللازمة لتصفية كل العسكريين ورجال الأمن والبيروقراطيين
الذين حمّلتهم مسئوليةَ الكشف عن “سريتها” من خلال حادثة سوسورلوك المذكورة، كما كانت
تستغل خطر الشيوعية في أيام الحرب الباردة للسيطرة على الحكم. أو بعبارة أكثر دقة إنها
كانت تخطط للقضاء على “المناخ الديمقراطي” و”السلم السياسي” الذي حاول الرئيس الراحل
طرغوت أوزال خاصة، والحكومات اليمينية واليسارية “المعتدلة” عامة، تـأسيسه بين الدولة
والجماهير العريضة من جانب؛ ومن جانب آخر “السلام المجتمعي” الذي حاولت حركة الخدمة
مع شقيقاتها الأخرى من منظمات المجتمع المدني إقامته بين أصحاب الديانات والأفكار والأعراق
والمذاهب المختلفة في البلاد(14).
2ـ الطبيعة الحضارية
لحركة الخدمة
رغم عزم عصابة
أرجنكون على استهداف حركة الخدمة وجعلها فزاعة تتذرع بها لإجراء عملية جراحية في الدولة
والمجتمع على حد سواء، فقد كانت هناك مشكلتان رئيستان تحُولان دون إلصاق تهمتي “الرجعية”
و”هدم العلمانية” بهذه الحركة، إذ كانت تتميز عن الحركات ذات المرجعية الدينية التقليدية
بوصفين مهمين وهما:
أ- الأصالة الإسلامية
الوسطية من حيث الروح والمعنى
بـ- المعاصَرة
من حيث الشكل والصورة والأدوات
فهي حركة تلتزم
بمعارف الوحي الأصلية، وفي الوقت ذاته تتفاعل مع الحداثة والديمقراطية وتقبل الاجتهادات
والتفسيرات الجديدة، وتتبنى “الانفتاح” و”الحوار” مع “الآخر” من أصحاب الأفكار والأديان
والثقافات الأخرى في” تركيا” و”العالم” كله. لذلك جعلها الوصف الأول تلتقي في نقطة
مشتركة مع المذاهب والحركات الفكرية الإسلامية التقليدية، لكنه في الوقت نفسه حمل
“العلمانيين المتطرفين” على اتهامها بـ”الرجعية والتخلف”، و”السعي لهدم العلمانية”
و”تأسيس دولة الشريعة” على حد تعبيرهم. وفي حين أن الوصف الثاني جعلها تتقارب من “العلمانيين
المعتدلين” وتلتقي معهم على أساس قبول كل طرفٍ للآخر كما يعرّف نفسه دون أي إملاءٍ
من الطرفين، فإن ذلك الوصف أيضًا دفع أنصار “الإسلام السياسي” إلى اتهامها بـ”العلمانية”
و”العمالة للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل” ولو بصوتٍ خافت في البداية خشية خسارة
أصوات الحركة في الانتخابات.
وقد صار مواجهة
الخدمة لهذين النوعين المتناقضين من الاتهام قدرها المحتوم خاصة في ظل تمسكها بهذين
الوصفين وعدم تخليها عن أيٍّ منهما. ومن ثم كانت تتعرض على الدوام لانتقاد كل من العلمانيين
“المتطرفين” والإسلاميين “المتشددين” المنحصرين داخل منظومة ضيقة مغلقة رافضة للانفتاح
والحوار. فالعلمانيون المتطرفون هاجموها بحجة “الحفاظ على علمانية الدولة”؛ بينما الإسلاميون
استهدفوها بحجة دعم بعض المتعاطفين معها للأحزاب اليمينية بدلاً من حزبهم “الإسلامي”
واختلاف منهج الطرفين في الفكر والعمل.
وفي المقابل كانت
الخدمة تأخذ على الفريقين احتكارهما العلمانية والإسلام في أنفسهما، واستغلالهما “الأيديولوجي”
و”المصلحي” لهما، وتحويلهما تصورهما عن العلمانية والإسلام إلى “طغمائية” غير قابلة
للتغيير والتفسير والزيادة والنقص، ورفضهما أي فكر معتدل بديلا عنهما، واتخاذهما من
العلمانية أو الإسلام “أداة” لشيطنة الآخر، و”درعًا” للحيلولة دون أي نقد قد يوجه إليهما
ولو كان بنّاءً إيجابيًّا.
كانت الخدمة تتعرض
على الدوام لانتقاد كل من العلمانيين “المتطرفين” والإسلاميين “المتشددين” المنحصرين
داخل منظومة ضيقة مغلقة رافضة للانفتاح والحوار.
3ـ لغة جديدة في
المجتمع
امتدت نشاطات الخدمة
التعليمية والإنسانية إقليميًّا ودوليًّا، خاصة في الجمهوريات التركية المنفصلة عن
الاتحاد السوفيتي في أعقاب انهياره، ونجحت في تقديم حلول ناجعة لإقامة جسور ورأب الصدع
المجتمعي بين العلمانيين والإسلاميين، والأتراك والأكراد، والعلويين والسنة، والقوميين
والأقليات الأجنبية، وأطلقت حركة حوار شاملة مع كل مكونات المجتمع، داعية الجميع إلى
نبذ العنف والتخلي عن الصراع والنزاع، وإيثار لغة الحوار ونشر ثقافة التعايش السلمي.
ونتيجة لهذه الجهود الحثيثة استجابت فئات كثيرة من الشعب لهذه الدعوات، وبدأت لغة جديدة
تسري في المجتمع وهي لغة الحب والاحترام والقبول بين المختلفين فكريًّا وثقافيًّا وعرقيًّا
ودينيًّا، واتفقوا ضمنيًّا دون تسمية على احترام أي فكر أو اتجاه أو دين” و”التخلي
عن التوظيف السياسي للعلمانية والدين”، وكانت أنظار الرأي العام تتركز على سنّ دستور
جديد بمقاييس عالمية تحمي وتحترم حقوق كل إنسان بغضّ النظر عن فكره ومذهبه وعرقه ودينه.
وبهذه اللوحة الجديدة
التي عملت حركة الخدمة ومن لف لفها من منظمات المجتمع المدني الأخرى على رسمها وتشكيلها
تم حرمان عصابة أرجنكون من الأرضية الخصبة التي كانت تستثمرها لصالحها وهي أرضية الاستقطاب
المجتمعي الحاد الذي يخلق بؤرًا متنوعة من الصراعات والنزاعات.
ثالثًا: خطة أرجنكون
للقضاء على الخدمة
اكتسبت الخدمة
شعبية كبيرة في الداخل والخارج بسبب خطابها الحضاري، وتبنيها لغة توافقية تجمع بين
مختلف أطياف المجتمع، وترفض التصنيف والإقصاء والتهميش والانعزال، ومن ثم كان من الصعب
على عصابة أرجنكون تصويرها على أنها فزاعة راديكالية رجعية متشددة. لذا اضطرت إلى تغيير
تكتيكاتها والالتجاء إلى طرق ملتوية لتحقيق غرضها عبر وضع خطة مكونة من ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى:
دعاية سوداء للحطِّ من قيمة مؤسسات الخدمة وأنشطتها، واغتيالها معنويًا في المجتمع.
الخطوة الثانية:
إعلان الخدمة حركة إرهابية “غير مسلحة” أولاً.
الخطوة الثالثة:
ثم إعلانها حركة إرهابية “مسلحة”.
1ـ التشويه المنظم
لترجمة هذه الخطة
على أرض الواقع أطلقت العصابة دعاية سوداء ضد الحركة أثناء عملية 28 فبراير/شباط الانقلابية
من خلال مجموعتين متناقضتين في الظاهر متعاونتين في الخفاء:
– مجموعة معادية
لأي مظهر من مظاهر الإسلام في القطاع العام والخاص.
-مجموعات إسلامية
متطرفة، تتبنى نهجًا راديكاليًّا معاديًا للدولة.
فالمجموعة الأولى
كان يقودها دوغو برينتشاك(14) الذي استطاع بعد 2012 استقطاب أردوغان إلى صفه بشكل أو
بآخر وعقد معه تحالفًا استراتيجيًّا لا يزال مستمرًا إلى اليوم.
حاولت المجموعة
الأولى بقيادة برينتشاك تشكيل رأي عام عن الخدمة يصنفها بأنها “حركة إسلامية متطرفة”
تسعى لقلب النظام من العلماني إلى الشريعة؛ في حين روجت المجموعة الثانية -التي ضمَّت
حزب الله “التركي” وتنظيم “السلام والتوحيد” المواليين لإيران، وجماعات “عجزي مندي”
و”تحشية” المرتبطتين بـ”تنظيم القاعدة” و”حيدر باش” المتطرفة- شائعات تتضمن اتهام حركة
الخدمة بأنها “حركة تظهر الإسلام وتبطن اليهودية أو المسيحية وتعمل لصالح أمريكا وإسرائيل”،
بل وصمت هذه المجموعة فتح الله كولن رائد حركة الخدمة، بأنه “جاسوس الفاتيكان” لمجرد
أنه التقى البابا في إطار جهود حوار الأديان. كما عملت هذه المجموعات “الإسلامية” على
إعداد فيديوهات ومنشورات تحتوي على آراء لكتاب و”علماء دين” متطرفين تكفّر وتضلّل كولن
وأفراد حركة الخدمة وتتهمهم بالعمالة للغرب(16).
كانت مؤسسات الخدمة
التعليمية من مدارسَ وجامعاتٍ ومعاهدَ للتحضير الجامعي وصالات للقراءة والمدارسة الهدفَ
الأول لعصابة أرجنكون، لأنها كانت ترى أن تلك المؤسسات مسؤولة عن انفلات “المجالات
العلمية والاقتصادية والبيروقراطية” في البلاد من أيدي أقلية نخبوية قديمة ومهيمنة
إلى الطبقات الشعبية العريضة، الأمر الذي جعلها تتهم الحركة باختراق الدولة والتوغل
في مؤسساتها. لذلك نشر إعلامها “العلماني” المؤدلج أخبارًا مفبركة تزعم أن حركة الخدمة
تدرّس “الشريعة” في مؤسساتها التعليمية، لإثارة حفيظة العلمانيين في الجيش وأجهزة الدولة
الأخرى والمجتمع، مع أن كافة البرامج في مؤسسات الخدمة التعليمية هي عينها البرامج
الرسمية السائدة في البلاد؛ وفي المقابل اشتغل الإعلام “الإسلامي” الموجَّه على إشاعة
أنباء مفادها أن الخدمة لا تدرّس العلوم الإسلامية وتتبنى المنهج العلماني لتشوه صورتها
لدى الملتزمين دينيًا وتشكل رأيًا عامًّا سلبيًّا عنها.
2ـ تهمة اختراق
مؤسسات الدولة
سعى هذا التنظيم
لاتهام الخدمة بأنها تعمل على اختراق مؤيديها لمؤسسات الدولة وهي التهمة القديمة الجديدة
الذي حاول كل نظام سواء أكان علمانيًّا أم “إسلاميًّا” إلصاقها بالخدمة أو معارضيه،
وقد رد الأستاذ كولن على هذا الاتهام بنفسه قائلا: إن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على
دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، لأن الملتحقين
بهذه المؤسسات مواطنون أتراك، والمؤسسات تركية، وبالتالي فالمؤسسات ملك هذا الشعب وهذه
الدولة”. ثم أشار إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في
فترة معينة على أيدي فئة قليلة لا تنتمي إلى الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء
الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعون للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية.
ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات لمؤسسات دولتهم.
فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق قانوني ومشروع
لهم، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية
في إطار القوانين واللوائح الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”(17).
كانت عصابة أرجنكون
تسعى إلى توفير الحصانة القانونية لأعضائها وأعمالها المارقة ومن ثم فقد كانت ترى في
كل مسئول سياسي ملتزم بالديمقراطية أو موظف إداري ملتزم بالدستور والقانون خطراً يهددها،
وتسعى إلى تصفية هذا النوع من السياسيين أو الموظفين بأي ذريعة. لذلك لم يتوقف هذا
النوع من الأخبار الساعية إلى تشويه سمعة الخدمة وشيطنتها وإقناع الشعب بضرورة إغلاق
مؤسساتها، ومنع تسلل المتخرجين فيها من الطلبة إلى أجهزة الدولة المختلفة حتى اليوم.
في ظل هذه الأجواء
الخانقة، اتخذ كولن قراراً بمغادرة تركيا إلى أمريكا عام 1999، لكن السلطات القضائية
-بتحريض من عصابة أرجنكون- فتحت ضده دعوى في 22 أغسطس/آب 2000 تتهمه فيها بـ”التحريض
على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة” و”تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”.
عصابة أرجنكون
كانت تضع أمام قيادات الجيش وأجهزة الدولة الحساسة فزاعة “الرجعية الدينية الساعية
إلى تقويض العلمانية”، محاوِلةً تجسيدها في “الخدمة”.
3ـ فشل وصم الخدمة
بالإرهاب
كانت عبارة “منظمة
إرهابية غير مسلحة” تدل أساسًا على دراية أرجنكون بأنها لن تجد لمزاعمها مؤيدين سواء
في تركيا أو العالم الخارجي لو ادعت على الخدمة بأنها حركة إرهابية “مسلحة”، فسيرة
الخدمة النزيهة الممتدة لأكثر من 40 عامًا كانت ستدحض كل هذه المزاعم على الفور، ومن
ثم لجأت إلى تشكيل تنظيمات وجماعات إسلامية متطرفة كتنظيم “حزب الله” المسلح، ومجموعات
“عجزي مندي” و”تحشية” و”حيدار باش” المتطرفة، وسعت إلى خلق علاقات وصِلات بينها وبين
الخدمة، بهدف الدعاية أنها لا تختلف كثيرًا عن هذه الحركات الإسلامية المتطرفة أو المسلحة.
بل إنها بادرت إلى وضع أسلحة في مؤسسات الخدمة خُفية لتجسيد هذه الصورة في نظر الرأي
العام، كما يفعل اليوم نظام أردوغان. لكن رغم هذه الدعاية السوداء التي تهدف إلى النيل
من سمعة مؤسسات الخدمة فإنها لم تنجح في ترويج هذا الاتهام بين السواد الأعظم من العلمانيين
والمسلمين “المعتدلين”(18).
ويمكن القول إن
انفتاح حركة الخدمة بمؤسساتها التعليمية على جمهوريات وسط آسيا، ونجاحات الطلبة الدارسين
فيها في المسابقات العلمية العالمية، وحسن سلوكهم وأخلاقهم بشهادة الجميع، قد أسهم
في فشل ترويج مثل هذه الدعايات المغرضة وقضى عليها في مهدها.
ورغم هذا الكم
الهائل من التضليل والتشويه الإعلامي في حق الخدمة وتسليط شتى أجهزة الدولة عليها فإنها
التزمت بالأطر والأعراف القانونية ولم تحاول الخروج عنها قط كما هو الحال في الوقت
الراهن، واكتفت بتسليط الأضواء على الحقائق عبر وسائل إعلامها من جهة، والاحتكام إلى
القضاء للدفاع عن نفسها من جهة أخرى.
وإذا كانت عصابة
أرجنكون قد فشلت في إقناع الرأي العام باختراق الخدمة لأجهزة الدولة، فإنها نجحت في
تصفية الآلاف من العسكريين وأعضاء الأمن والقضاء والسلك البيروقراطي منذ بدايات انقلاب
1997 حتى 2002 بتهمة ممارسة “الرجعية الدينية” أو “الانتماء إلى حركة الخدمة”، رغم
أن جميع المفصولين لم يكونوا من الخدمة بل كانوا ينتمون إلى شتى المجموعات والحركات
الفكرية.
ومن المثير أن
هذه العصابة كانت تقود دعاية سوداء ضد المطرودين من هذه المؤسسات حتى لا يتوظفوا في
القطاع العام، تمامًا مثلما يفعل اليوم نظام أردوغان بل يتجاوز ما كان في تلك الفترة
بخطوات، حيث لا يسمح للمفصولين بقانون الطوارئ بالعمل ليس في القطاع الحكومي فحسب وإنما
في القطاع الخاص أيضًا.
رابعًا: استهداف
أردوغان لحركة الخدمة
1ـ التوقيع على
قرار مكافحة الخدمة
لم تتوقف أنشطة
أرجنكون الرامية إلى تدمير الأرضية الديمقراطية في تركيا من خلال استخدام ذريعة “الانتماء
إلى حركة الخدمة الرجعية” حتى في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية، فقد مارست ضغوطها
على أعضاء مجلس الأمن القومي من العسكريين والمدنيين حتى وقَّع كثير منهم، وعلى رأسهم
رئيس الحكومة أردوغان -مختارًا كان أو مكرهًا- على قرار “مكافحة حركة الخدمة وعرقلة
أنشطتها في الداخل والخارج” عام 2004. وأوكلت مهمة تطبيق القرارات المتخذة ومتابعة
نتائجها إلى لجنة متابعة التنفيذ والتنسيق التابعة لرئاسة الوزراء(19). ثم قامت العصابة
بتوظيف امتداداتها في السلكين السياسي والقضائي لترجمة هذا القرار على أرض الواقع في
2006، إذ عمدت وزارة العدل حينها إلى إعداد مشروع قانون يقترح إدراج عبارة “منظمة إرهابية
غير مسلّحة” في قانون مكافحة الإرهاب المراد تعديله، بعد أن طرحها أرجنكون لأول مرة
في انقلاب 1997.
هذا المقترح جاء
في أعقاب طلب تقدم به محامي فتح الله كولن لإعادة النظر في اتهام النيابة العامة موكله
في فترة انقلاب 1997 بتأسيس منظمة إرهابية “غير مسلحة”، التي كانت الدعوى فيها مؤجلة،
وقد وافقت محكمة الجنايات في أنقرة على طلب الدفاع فأعادت النظر في القضية وقضت بتبرئة
كولن في 5 مايو/ أيار 2006. وقد حاول تنظيم أرجنكون إجراء تعديل في قانون مكافحة الإرهاب
وإضافة عبارة “منظمة إرهابية غير مسلّحة” إليه، تمهيدًا لإعلان الخدمة -وأمثالها من
الحركات- تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح، ذلك أن حكم البراءة بحق كولن المذكور كان قابلاً
للنقض من قبل المحكمة العليا في حال إدراج عبارة “منظمة إرهابية غير مسلّحة” ضمن تعديلات
قانون مكافحة الإرهاب.
لكن قبل ليلة واحدة
من مناقشة مشروع القانون في اللجنة المعنية اجتمع أردوغان مع أركان حكومته لبحث الموضوع
وتحديد اللمسات الأخيرة عليه، وفي ختام الاجتماع وضع أردوغان نهاية للجدل المثار حول
هذا الموضوع والذي استمر أكثر من شهر بقوله: “هل يمكن أن يكون هناك تنظيم إرهابي غير
مسلح؟! يجب تغيير هذه العبارة”. وفي نهاية المطاف تحقق ما طلبه أردوغان، ولم توضع عبارة
“منظمة إرهابية غير مسلّحة” ضمن “قانون مكافحة الإرهاب”(20). وكان وزير العدل آنذاك
“جميل تشيتشاك” المعروف بأنه رجل أرجنكون في الحكومة أكثر المنزعجين من هذا التطور،
بحسب ما كتبه كل من الكاتب الصحفي “أحمد خاقان” من صحيفة “حريت” و”ميسر يلديز” من موقع
“أودا تي في” الإخباري المقرب من أرجنكون(21). وبعد سنتين تقريبًا من هذا التغيير،
وافقت هيئة الدائرة التاسعة للمحكمة العليا بالإجماع على قرار براءة كولن في 5 مارس/
أذار 2008، ووافقت عليه بعدها الجمعية العامة للمحكمة العليا بموافقة 17 عضوًا مقابل
رفض 6 أعضاء.
والمفارقة أن الكاتبة
ميسر يلديز الموالية لتنظيم أرجنكون أكدت أن التعديلات التي حاولت وزارة العدل لحكومة
العدالة والتنمية إجراءها على قانون مكافحة الإرهاب كانت محاولة لتطبيق القرار المتخذ
في اجتماع مجلس الأمن القومي عام 2004، ومن ثم اتهمت أردوغان بالحيلولة دون تنفيذ هذا
القرار ومنع إعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح(22).
إن حجم الضرر الذي
تعرض له المجتمع المدني بكل أطيافه من انقلاب 1997 أكثر من الذي تعرضت له الحكومة آنذاك
والتي خضعت للضغوطات العسكرية ووافقت على تطبيق ما سمي بـ”قوانين مكافحة الرجعية الدينية”.
2ـ شعور أردوغان
بالقوة
لقد أعلن أردوغان
عقب انشقاقه عن أستاذه نجم الدين أربكان أبي “الإسلام السياسي” في تركيا، أنه يتبنى
منهجًا توافقيًّا يضم جميع الأطراف ويعمل على نزع فتيل الصراعات والنزاعات من خلال
تبني رؤية مشتركة ينطلق منها الجميع، لكنه ما لبث أن تراجع عن هذا النهج بعدما شعر
بتمكنه من السلطة تزامنًا مع كسر شوكة عصابة أرجنكون، واعتقاله معظم عناصرها الفعالة،
وإعادة تصميم البيت الداخلي لحزبه، والأحزب اليمينية الأخرى، والجماعات الإسلامية،
والمجتمع المدني، والمجالين الاقتصادي والإعلامي، من خلال تصفية منافسيه المحتملين
أو جذبهم إلى صفه، باستخدام سياسة الجزرة والعصا.
وبدأ أردوغان يطالب
كل شرائح المجتمع وخاصة ذوي المرجعيات الدينية منهم بمبايتعه، وإلا سيتم التنكيل بهم،
فوفقا لما كتب موقع “خبر 7” الموالي للسلطة فإن أردوغان كان يردد: “إما أن يبايعوني
أو يُقضى عليهم”(23). وبالفعل خضعت لرغبته حركات وجماعات مختلفة طمعا في مكاسب السلطة
ودعمها أو خوفا من بطش أردوغان وتنكيله بها.
لكن حركة الخدمة
رفضت الخضوع لمطالب أردوغان بـ”المبايعة” لأنها ترى دائما أن أهم ما يميزها عن غيرها
هو استقلاليتها، واعتمادها على نفسها ماليًّا وبشريًّا. كما تعتبر أن فقدان هذه الميزة
يمثل أكبر خطر يهدد وجودها ويعرقل أنشطتها ويحولها إلى أداة لتحقيق مصالح آنية ضيقة.
لقد أراد أردوغان إخضاع الخدمة لإرادته، واستثمار زخمها المجتمعي لصالح مشروعه السياسي،
وتدجين قوتها بحيث لا تقف أمام طموحاته المحلية والإقليمية، كما كان يريد أن يستغل
مؤسساتها التعليمية المنتشرة حول العالم ويجعل منها أداة لتلميع صورته في الداخل التركي
وتسويقه في العالم الإسلامي كله بوصفه زعيمًا إسلاميًّا، بل خليفة لكل المسلمين، لكن
حركة الخدمة رفضت أن تكون أداة لأي أغراض سياسية تحت أي شعار كان، فهي تعارض تسييس
الإسلام واتخاذه وسيلة لتحقيق مآرب شخصية ومصالح حزبية رخيصة، وتؤمن بضرورة النشاط
الحر للمجتمع المدني.
3ـ بين السيطرة
على الخدمة أو القضاء عليها
لم يصرح أردوغان
بأي اتهامات للخدمة قبل فضيحة الفساد التي تورط فيها أعضاء بارزون من حكومته وأفراد
من عائلته في نهاية 2013، وقد ذكر الأستاذ كولن في مقابلة متلفزة أن عداء أردوغان للخدمة
لم يكن وليد الأحداث بل كانت نيته مبيته للقضاء عليها منذ أن قرر تأسيس حزب العدالة
والتنمية “إذا تمكن من السلطة” في حال لم تخضع الحركة له(24).
ونظرا لأن أردوغان
زعيم سياسي براجماتي محترف ينتهز الفرص جيدا لخدمة أغراضه ومصالحه، والقضاء على منافسيه
فقد اعتبر إقدام مؤسسة القضاء وأجهزة الأمن على اتهامه بالفساد والرشوة فرصة ذهبية
للشروع في تنفيذ خطة مدروسة جيدا للقضاء على الخدمة بصورة تدريجية كان بدأ التمهيد
لها بالفعل قبل سبع سنوات من بدء تحقيقات الفساد. فقد اعترف “عبد القدير أوزكان” مستشار
رئيس الوزراء “بن علي يلدريم” بأن رئيس الأركان العامة “ياشار بويوك آنيط” أقنع أردوغان
بخطر الخدمة وضرورة القضاء عليها في اجتماع عقده الطرفان في 4 مايو/ أيار 2007، وأكدا
للصحفيين في ختامه “أن مضمون الاجتماع سيبقى سرًا حتى الموت، إن لم يكشف عنه الطرف
الآخر!”(25)، هذه الجملة الشرطية من الطرفين كانت تشير إلى “ليّ ذراع” و”مساومة” وقعت
بين رئيس المؤسسة العسكرية ورئيس السلطة السياسية خلف الستار. وهناك تسريبات دولية
تؤيد ذلك(26).
أول من تكلم عن
هذا الاجتماع التاريخي هو النائب من حزب الشعب الجمهوري “فكري ساغلار”، حيث زعم أن
أردوغان وضع أمام بويوك آنيط ملفات تتضمن معلومات مكتوبة ومصورة عن أفراد عائلته(27).
في حين زعم كل
من “إدريس بال”، النائب السابق من حزب أردوغان، ووزير الداخلية الأسبق “إدريس نعيم
شاهين”، رفيق درب أردوغان منذ أيام رئاسته لبلدية إسطنبول، أن بويوك آنيط هو الآخر
أظهر لأردوغان عديدًا من الملفات الخاصة به وبأفراد من عائلته وبعض وزرائه، ثم هدّده
وطالبه بتنفيذ “المشروع” الذي يقترحه تحت إشراف “فريق خاص” مكون من الخبراء(28).
ويلفت مستشار رئيس
الوزراء المذكور إلى أنه: “كان من المخطط إطلاق عمليات ضد حركة الخدمة في 2007، لكن
لما انطلقت الحملات الأمنية في إطار قضية أرجنكون بعد شهرٍ من هذا الاجتماع تأجلت تلك
العمليات بالضرورة إلى وقت لاحق”(29). وهذا ما أيده “بلجين بالانلي”، أحد الجنرالات
المحكوم عليهم في قضية أرجنكون(30).
فيما زعم المدون
التركي المشهور على تويتر “فؤاد عوني” أن أردوغان كان واثقًا من نفسه عندما ذهب إلى
قصر “دولما باهتشة” للاجتماع مع رئيس الأركان، إذ كان بحوزته ملفات كفيلة بالقضاء على
بويوك آنيط، لكنه أكد أن بويوك آنيط كان قد توصل إلى معلومات ووثائق صادمة في الغرفة
السرية لرئاسة الأركان العامة حول الشجرة العائلية لأردوغان، وعلاقاته بالتنظيمات الراديكالية
في أيام شبابه، وشبكة الرشوة والفساد التي أسسها عندما كان رئيسًا لبلدية إسطنبول(31).
ومن المعلوم أن
ملاحقة الأجهزة الأمنية والقضائية لفساد أردوغان يعود تاريخها إلى بدايات الألفية الثالثة،
وقبل أن يخطر على بال أحد حتى شبح “الكيان الموازي”. فهناك كثيرٌ من القضايا المرفوعة
ضد بلدية إسطنبول بتهمة الفساد في المناقصات والعطاءات الرسمية وقت رئاسة أردوغان لها.
واتهمت السلطات القضائية أردوغان آنذاك باستغلال وظيفته في أثناء هذه المناقصات. لكن
هذه الملفات –كما هو الحال اليوم– أغلقت بشكل مؤقت مع حصول أردوغان على الحصانة القانونية
بعد أن أصبح رئيس الوزراء(32).
تدل اعترافات مستشار
رئيس الوزراء -وهو ما أيدته الأحداث اللاحقة- على أن أردوغان كان يصنف كلاًّ من عصابة
أرجنكون وحركة الخدمة ضمن التهديدات التي تواجهه في طريق تأسيس نظامه الشخصي تحت مسمى
“النظام الرئاسي بنكهة تركية”، لكنه كان يلاحظ أن الأولى تهديدها أخطر من الثانية؛
نظرا لامتلاكها قوة تحرك بها شتى أجهزة الدولة ضد حكومته، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية
التي حذرته، والقضاء الأعلى الذي حاول إغلاق حزبه عبر المحكمة الدستورية في 2008، فانتهز
مبادرة أجهزة الأمن والقضاء إلى إطلاق تحقيقات أرجنكون بعد شهر من ذلك الاجتماع فرصة
مواتية لكسر أجنحة العصابة التي ترى نفسها “الدولة العميقة”، مؤجلاً تنفيذ خطة القضاء
على الثانية إلى وقت لاحق منتظرًا الفرصة السانحة.
4ـ التحالف مع
أرجنكون
تحالف أردوغان
في البداية مع القوى المحلية والغربية “الناجحة” في الديمقراطية لـ”الوصول إلى السلطة”،
ثم نقض هذا التحالف وتحول إلى التحالف مع كل من “الإسلاميين” الذين لا يؤمنون بالديمقراطية
أصلاً ويعبترونها “قطارًا” يجب النزول منه في أول محطة بعد “التمكين”، والقوى الشرقية
الراسبة أو الضعيفة في الديمقراطية كإيران وروسيا والصين، وذلك لـ”ضمان بقائه في السلطة
حتى الأبد”. لذا نرى أن أردوغان بدأ يتخلى عن “القوة الناعمة” في الداخل والخارج بعد
حصوله على دعم نصف الشعب التركي في الانتخابات البرلمانية عام 2011 وبدأ يتوجه إلى
استخدام “القوة الغاشمة” مثل عصابة أرجنكون لزيادة شعبيته وتطبيق مشاريعه في الداخل
والمنطقة، لدرجة أن كثيرًا من المحللين، منهم الصحفي المخضرم “علي بولاج”، كانوا يرون
أن “روح أرجنكون” انتقلت إلى “جسد أردوغان” أو حلت في جسده عن طريق “التناسخ” بعد تسممّه
بالقوة والسلطة، وشرع يستخدم الأساليب التي كانت تستخدمها قديمًا تلك العصابة المارقة.
لذلك لما بدأت
تحقيقات الفساد والرشوة في 2013 كان أردوغان قد انتهى من وضع الإطار العام لمشروعه
الكفيل بإخراجه من هذا المأزق؛ حيث أظهرت التسجيلات الصوتية لجنرالات أرجنكون المسجونين
أن أردوغان وعدهم عام 2012 بإخراجهم من السجن شريطة تحالفهم معه في الفترة الجديدة.
كما ذكر الجنرال “جيم عزيز تشاكماك” في المكالمة الهاتفية المسربة مع زميله الجنرال
“فاتح إيلغار” أن حكومة أردوغان في صدد إعداد مشروع سيتم تنفيذه قريبًا جدًّا سيخرجون
بموجبه من السجن ومن ثم سينتقمون من الذين أودعوهم السجن حتى أطفالهم ونسائهم وشيوخهم.
ومن اللافت أنه كان يقول: “تركيا ستعود إلى رشدها وصوابها عبر حرب أهلية. وسترون أننا
سنخرج من هذا السجن خلال عام بفضل تعديلات قانونية يجري إعدادها حاليا من قبل الحكومة.
وبعد ذلك سيكون ثأرنا شديدًا من الذين حاكمونا وسجنونا، إنهم سيدخلون السجن مكاننا.
فنحن سنضعهم في السجن ذاته الذي وضعونا فيه”، وكل ما ورد في هذا التسجيل الصوتي تحوّل
إلى حقيقة بعد سنة، إذ اتهم أردوغان أعضاء الأمن والقضاء المشرفين على تحقيقات أرجنكون
بالانتماء إلى “الكيان الموازي” وأقالهم من وظائفهم أولاً ثم اعتقلهم جميعا في فترات
مختلفة.
5ـ التحالف مع
أرجنكون النسخة الكردية
من جانب آخر قوَّى
أردوغان هذا التحالف بتحالف آخر عقده مع النسخة الكردية لأرجنكون(33)“اتحاد المجتمعات
الكردستاني”؛ الهيئة الإدارية المدنية العليا لحزب العمال الكردستاني المسلح، الذي
تصنفه تركيا ضمن التنظيمات الإرهابية، فبدأ يفرج عن المحكومين من قياداتهم واحدًا تلو
آخر حتى قبل الإفراج عن جنرالات أرجنكون. ومن ثم أعلن في نهاية 2012 أنه أمر منذ فترة
رئيسَ الاستخبارات “هاكان فيدان” بالتفاوض مع زعيم حزب العمال الكردستاني المحكوم عليه
بالحبس مدى الحياة “عبد الله أوجلان” من أجل تأسيس السلام وحل المسألة الكردية. وكشفت
“سجلات مفاوضات الاستخبارات مع أوجلان” التي حصلت عليها جريدة “مليت” ونشرت في 28 فبراير/
شباط 2013 أن هذا التحالف كان قائمًا على أساس دعم الأكراد لأردوغان في تحقيق حلمه
الخاص بنقل تركيا إلى النظام الرئاسي مقابل العفو العام عن العناصر المسلحة وفرض إقامة
جبرية على أوجلان بدلاً من الحبس أولاً، ومن ثم الإفراج عنه تمامًا ومنح الحكم الذاتي
للأكراد في شرق تركيا(34). وهذا ما أكد صحته زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي “صلاح
الدين دميرتاش” في تصريحات أدلى بها للمحكمة بعد اعتقاله من قبل أردوغان عقب الانقلاب
الفاشل في 2016.
من اللافت جدا
أن أوجلان كان يشير إلى وجود مشكلتين أساسيتين لهما ويطالب أردوغان بحلهما بمقتضى هذا
التحالف، الأولى: الأنشطة التعليمية لجامعات ومدارس ومعاهد التحضير الجامعي وصالات
القراءة والمطالعة لحركة الخدمة، متهمًا إياها بالحيلولة دون انضمام كوادر جديدة إلى
صفوفه وعودة المنضمين إليه في أول فرصة للاستفادة من الفرص التعليمية والاقتصادية التي
كانت توفرها الخدمة لزملائهم(35). وهذا يفسر سبب مبادرة عناصر العمال الكردستاني إلى
إحراق بيوت الطلبة التابعة للخدمة في الولايات الشرقية خاصة.
والثانية: العمليات
الأمنية التي كان ينفذها أمن ديار بكر بصورة ناجحة ضد عناصر حزب العمال الكردستاني
المسلحة.
من اللافت جدا
أن أوجلان كان يستخدم مصطلح “الكيان الموازي” قبل ثلاثة أشهر من إطلاق أردوغان هذا
الوصف على حركة الخدمة، إذ قال أوجلان في 15 سبتمر/ أيلول 2013: “جهاز أمن ديار بكر
يعمل مثل الدولة الموازية. والجماعة (حركة الخدمة) هي التي تدير هذه الدولة الموازية
…”(36).
ومن اللافت للانتباه
أيضًا أن أوجلان كان قد وصف تحقيقات الفساد والرشوة في 2013 بـأنها “ضربة موجهة لمفاوضات
السلام الكردية”، وزعم أن “الكيان الموازي” يريد الإطاحة بأردوغان بسبب مبادرته إلى
تسوية المشكلة الكردية عن طريق الحوار. وكذلك أعلن رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح
الدين دميرتاش وقتها أن حزبه لن يوافق على إسقاط حكومة أردوغان بمثل هذه المحاولة الانقلابية(37).
ورغم إظهار أوجلان فتح الله كولن وكأنه ضد مفاوضات السلام التي أطلقها أردوغان إلا
أن الأخير كان قد أعلن دعمه للمفاوضات في أحد دروسه مستشهدًا بالآية الكريمة ﴿وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ﴾ وبقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ﴾(38).
6ـ معاهد التحضير
الجامعي فتيل الأزمة
لقد لاقت مطالبة
أوجلان بإغلاق مؤسسات الخدمة التعليمية صدى إيجابيًّا في نفس أردوغان الذي كان يخطط
لإغلاق معاهد التحضير الجامعي منذ سنوات حكمه الأولى؛ إذ إن هذه المعاهد كانت تحقق
نجاحات كبيرة في عملها التعليمي وكان الدارسون فيها يجتازون الامتحانات العامة بسهولة
مقارنة بالآخرين، لذلك لم يستطع واحد من وزراء التعليم في حكومة أردوغان المتعاقبين
الإقدام على تنفيذ هذا المخطط حتى عام 2013 لمخالفته واقع المنظومة التعليمية في تركيا
وتقييده لحرية المبادرات الاستثمارية الخاصة.
وقد تعمد أردوغان
إثارة نقاش حاد حول قضية إغلاق معاهد التحضير الجامعي بقوة قبيل بدء تحقيقات الفساد
والرشوة، ليبدأ تطبيق خطته التي تستهدف القضاء على الخدمة وليشوش على أي ملفات فساد
يمكن أن تكتشف لاحقا.
فقد اعترف أردوغان
بأن جهاز الاستخبارات التركي أرسل إليه تقريرا قبل 6 أشهر من بدء تحقيقات الفساد حذره
فيه من الأضرار التي يمكن أن تلحق بحكومته بسبب علاقات بعض الوزراء مع رجل الأعمال
التركي الإيراني الأصل رضا ضراب(39)، الذي نشرت المعارضة وثائق تثبت أنه “جاسوس إيراني”.
وإذا أضفنا إلى ذلك طبيعة الملفات السرية التي أظهرها رئيس الأركان بويوك آنيط لأردوغان
خلال الاجتماع الذي ذكرنا أعلاه يتبين صحة ما نقول.
ومما يعزز ذلك
أيضًا ما تسرب من تسجيلات صوتية حصلت عليها الشرطة الألمانية في إطار تحقيقات جواسيس
أردوغان على الأراضي الألمانية عام 2014، فقد تساءل المدعو “د.هونكار” مع المتهم “أحمد
دوران يوكسل” في مكالمة هاتفية جرت بينهما بعد 3 أيام من بدء عمليات الفساد والرشوة
في 17 ديسمبر/ كانون 2013: “ما الذي يجب أن نفعله؟ لا بد من وجود كبش فداء للتخلص من
هذه الاتهامات”، فرد عليه يوكسل قائلاً: “كبش الفداء موجود. لقد تم اختيار فتح الله
كولن. إنه سيتعب كثيرًا. وسيتم تصفية وفصل 17 ألفا من رجال الشرطة في هذا الإطار”(40).
وبعد تكشف فضائح
الفساد والرشوة في نهاية 2013 بدأ أردوغان يهاجم الخدمة بشراسة في جميع خطاباته معبرًا
عنها بمصطلح “الكيان الموازي” أو “الدولة الموازية”، وقد بدا هذا الاصطلاح غريبًا على
الشارع التركي، فأردوغان لم يستخدمه من قبلُ في حق حركة الخدمة، بل لم يتخذ موقفًا
سلبيًّا -في العلن على الأقل– من هذه الحركة طيلة عقد كامل من حكمه، إن استثنينا الخلاف
المصطنع حول إغلاق “معاهد التحضير الجامعي”، مما تسبب في حالة من الارتباك وانقسام
الشعب تبعًا لذلك بين مؤيد لأردوغان في أطروحته ومعتبرٍ الكيان الموازي “حقيقة”، ومعارض
له ومعتبرٍ إياه “تمويهًا” يصدره أردوغان لشعبه ليتستر على فساد حكومته ويستخدمه ذريعة
لتصفية معارضيه.
7ـ وقفة مع مصطلح
“الكيان الموازي”
كان “يالتشين أكدوغان”
كبير مستشاري أردوغان هو مَن استعار مصطلح الكيان الموازي من مخترعه لأول مرة عبد الله
أوجلان، وأعاد طرحه مجددًا بعد بدء تحقيقات الفساد، ليصف به حركة الخدمة، نظرًا لأنه
كان ضمن مهندسي مفاوضات السلام مع العمال الكردستاني. فقد زعم قائلاً: “هناك كيان موازٍ
توغل في أعماق الدولة خطط للانقلاب على حكومة أردوغان من خلال تزوير أدلة إدانة وإلصاقها
بالوزراء، تمامًا مثلما نصب مؤامرة للجيش التركي لاعتقال كبار الجنرالات في إطار قضية
أرجنكون”، وذلك على الرغم من إقالة أردوغان كل الوزراء المتهمين بالفساد.
ومن المفارقة أن
أكدوغان ذاته هو الذي اعترض بشدة على إلصاق مصطلح الكيان الموازي بحركة الخدمة قبل
عام كامل من بدء تحقيقات الفساد. فبعدما استدعت النيابة العامة في 7 فبراير/ شباط
2012 رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان للتشاور حول انخراط بعض عناصر الاستخبارات
في صفوف حزب العمال الكردستاني والمشاركة معهم في أعمال إرهابية، إضافة إلى إطلاق سراح
رجالٍ تم اعتقالهم على أنهم إرهابيون بحجة أنهم “رجال الاستخبارات” صرح قائلا: “لن
أسمح بتشكيل دولة موازية داخل الدولة”، وهنا علق بعض الكتاب الصحفيين من أمثال “أمره
أوسلو” و”آرزو يلديز” على هذا التصريح بالقول: “إنه يقصد بالدولة الموازية حركة الخدمة”(41).
فانبرى أكدوغان مدافعًا عن الخدمة وكتب حينها مقالاً باسمه المستعار “ياسين دوغان”
بعنوان “نحن مدركون للعبة” نفى فيه وقوف الخدمة وراء هذه الحادثة التي اعتبرها إعلامُ
أردوغان “تدخلًا في سياسة الحكومة الخاصة بمفاوضات السلام الكردية مع أوجلان”. ففي
المقال الذي نشرته صحيفة “يني شفق” الموالية للحكومة في صفحتها الرئيسية تحت عنوان
“بالتأكيد ستفشل هذه اللعبة”، أكد على “عدم وجود أي صراع بين حزب العدالة والتنمية
وحركة فتح الله كولن، كما تصوّره بعض الأطراف ووسائل الإعلام في أعقاب استدعاء رئيس
جهاز المخابرات فيدان”. وأضاف “من غير الممكن أن يسود صراع أو نزاع في مجال السلطة
والإدارة بين مجموعتين تسعيان إلى تقديم خدمات إلى شعبهما في مجالين مختلفين”، ثم لفت
إلى أهمية “الأخوّة والتضامن بين المجموعتين اللتين تجمع بينهما المثل العليا الخالدة
وليس المنافع والمصالح العابرة”. كما شدد على أن آمال من يسعون إلى “إثارة الفتنة والبغضاء
والعداوة بين الحكومة برئاسة أردوغان ومؤيدي حركة الخدمة بقيادة كولن لن تتحقق على
الإطلاق، ولن يكون الطريق معبدًا أمام الحاقدين والحاسدين لتنفيذ مخططاتهم المنحوسة”(42).
ويبدو أن هذا الانفعال
الذي أبداه أكدوغان متمثلا في نفي ما ردده هؤلاء الصحفيون كان محاولة لحجب تكشف السيناريو
الذي حاكوه خلف الأبواب المغلقة مع حليفيهم الجديدين أرجنكون وحزب العمال الكردستاني
قبل أوانه.
8ـ ذريعة “الكيان
الموازي”
بعدما استتبت لأردوغان
الأمور وصار الآمر والناهي في تركيا وجد نفسه وريثًا لعصابة أرجنكون وأساليبها المارقة،
وعثر في مصنعها على مادة زاخرة جاهزة، ولم يبق له إلا تحديث مخططاتها القديمة واستخدام
مخلفاتها في أجهزة الدولة لتنفيذ خطة القضاء على “تركيا الديمقراطية” وبناء نظامه الذي
يرنو إليه باستخدام ذريعة الكيان الموازي. لذا حذا أردوغان “الإسلامي” حذو أرجنكون
تمامًا وتسلم مهمة تنفيذ مشروعها من خلال خطة مؤلفة من ثلاث خطوات أشرنا إليها فيما
سبق وهي:
الأولى: تشويه
الخدمة عبر وسائل الإعلام
الثانية: إعلانها
تنظيمًا غير شرعي أولاً
الثالثة: ثم إعلانها
تنظيمًا إرهابيًا “مسلحًّا”
وكما خلقت عصابة
أرجنكون “خطر الشيوعية” ووظفته في إعادة تصميم أجهزة الدولة وفصائل المجتمع المدني
وتصفية خصومها وتعيين الموالين لها أيام الحرب الباردة، وخلقت أيضا “خطر الرجعية الدينية”
ووظفته في تحقيق الغرض نفسه في ثمانينات القرن المنصرم، كذلك سار أردوغان على الدرب
نفسه وخلق خطرًا تحت مسمى “الكيان الموازي” ووظَّفه في تصفية أجهزة الأمن والقضاء التي
كشفت عن جرائمه وفضائح الفساد التي تورط فيها هو وعائلته وحكومته، كما استغل هذه الذريعة
أيضا لتعيين “موالين له”، للتستر على جرائمه، والتخلص من القيود الدستورية والقانونية.
بدأ أردوغان يروج
لمصطلح “الكيان الموازي” من خلال الادعاء بأنهم متغلغلون في أجهزة الدولة وأنهم مَن
وراء تحقيقات “أرجنكون” و”اتحاد المجتمعات الكردستاني” و”تنظيم السلام والتوحيد التابع
للحرس الثوري الإيراني” الناشط في تركيا، في تناقض فج مع تصريحاته السابقة التي أعلنها
تزامنًا مع عمليات التحقيق في قضايا أرجنكون؛ حيث كان يردد دائما: “أنا المدعي العام
المحقق في قضية أرجنكون” ردًّا على الاعتراضات التي كانت توجهها المعارضة لهذه التحقيقات،
كما خصص سيارته الخاصة المدرعة لقاضي التحقيق “زكريا أوز”، وهو (أردوغان) من هاجم الدائرة
المختصة في محكمة التمييز العليا عندما قررت إطلاق سراح جميع المعتقلين في هذه القضية
متهمًا إياها بـ”انتهاك الدستور والتدخلِ في قراراتٍ ليست من صلاحياتها”، لافتًا إلى
أن المحكمة تدخلت في قضايا تنظيم أرجنكون المعروضة أمام المحاكم الجزائية، ووصف قرارها
بـ”السياسي”، ومن شأنه أن يفقد ثقة الشعب بالقضاء، كما ورد في خبرٍ نشره موقع الجزيرة
عام 2010(43). كما كانت كل وسائل الإعلام المصنفة ضمن التيار الإسلامي داعمة لهذه التحقيقات؛
وكذلك أردوغان هو من وصف اتحاد المجتمعات الكردستاني بـ”الكيان الموازي” قبل أن يطلقه
على حركة الخدمة، وهو من تذمر من أنشطة الجواسيس الإيرانيين طيلة عامي 2011 –
2012. وقال “فهمي كورو” الكاتب الصحفي المقرب من أردوغان في مقاله بصحيفة “يني شفق”:
“إنني أعتقد وجود علاقة بين الاجتماع الذي عقده أردوغان مع جورج بوش في البيت الأبيض
في 5 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 وانطلاق تحقيقات أرجنكون”(44).
ومن الطبيعي وبعد
كل ما ذكر ألا يجد أردوغان مؤيدين لادعاءات أن حركة الخدمة هي من تقف وراء كل هذه العمليات
حتى من قاعدته الشعبية التي تواليه، لذلك لجأ إلى فكرة التغرير به والانخداع من قبل
الخدمة ليبرر تراجعه عن كل هذه التصريحات والمواقف السابقة حيث قال: “إن الكيان الموازي
خدعني بشأن قضية أرجنكون” وهذا أيضًا مناقض لما كان يردده دائمًا في مناسبات عديدة
من أنه لم ينخدع قط ولا يمكن أن ينخدع أبدًا(45).
إن نظرية التعرض
للخداع قد تنطلي إلى حدٍّ ما على عوام الناس لكنها لا يمكن أن تنطلي على جنرالات أرجنكون
الذين يتمتعون بالذكاء العسكري ويعلمون أن أردوغان هو المسئول السياسي عن قضية أرجنكون
على أقل تقدير لكنهم كانوا يبدون اقتناعهم بهذه المقولة بموجب تحالفهم معه “حتى حين”.
وتماديًا في تشويه
الخدمة في نظر الرأي العام ادعى أردوغان أنها كانت تتنصت على آلاف المكالمات، وأنها
سرقت أسئلة امتحانات التوظيف العام لسنة 2010، ليثير حفيظة الرأي العام ضدها. ومع أن
امتحانات ذلك العام ألغيت وأعيدت مجددًا، إلا أنه اتهم الخدمة بأنها دأبت على سرقة
تلك الأسئلة منذ سنوات، ليبرر تمكن أعضائها من النجاح في الامتحانات بسهولة. لكن هذا
الادعاء لم يلق قبولا لدى الشعب؛ نظرا لأن مدارس الخدمة كانت تحصل على المراكز الأولى
في المسابقات العلمية العالمية التي لا مكان فيها للحيلة والخداع، كما استمرت نجاحاتها
في الداخل التركي بعد هذه التصريحات أيضا إلى أن أغلق النظام جميع مؤسساتها عقب انقلاب
2016 المزعوم.
عداء أردوغان للخدمة
لم يكن وليد الأحداث بل كانت نيته مبيته للقضاء عليها منذ أن قرر تأسيس حزب العدالة
والتنمية “إذا تمكن من السلطة” في حال لم تخضع الحركة له.
9ـ السيطرة على
القضاء بذريعة الكيان الموازي
بعد حملة التشويه
والتضليل غير المسبوقة التي قام بها الإعلام الموالي للسلطة، انتهز أردوغان هذه الفرصة
وبدأ يعيد ترتيب أوراقه لتأسيس نظامه الذي يحلم به، فبدأ بإقالة ضباط الشرطة والقضاة
الذين كشفوا ملفات الفساد والرشوة بتهمة انتمائهم إلى “الكيان الموازي”، وعين بدلاً
منهم عناصر من الموالين له أو المتحالفين معه من بقايا عناصر أرجنكون الموالين للمعسكر
الأوراسي والإسلاميين الموالين لإيران، ثم أعاد هيكلة مجلس القضاء الأعلى التي ألغى
على إثرها المحاكم الجنائية العاملة في البلاد منذ عقود وأسس بدلاً منها محاكم أسماها
“محاكم الصلح الجزائية”. ثم أغلق القضاةُ ومدعو العموم المعينون في هذه المحاكم كل
ملفات الفساد والرشوة المتعلقة بالحكومة؛ وفي المقابل فتحوا تحقيقات مضادة انتهت باعتقال
كل ضباط الشرطة والقضاة المقالين من وظائفهم ممن أشرفوا على تحقيقات الفساد والرشوة،
بل طالت حتى كل من يمكن ألا يتجاوز عن هذه الملفات لو أوكلت إليهم من أعضاء الأمن والقضاء
تزامنًا مع حملة إعلامية روجت لفكرة أن أعضاء الكيان الموازي في الأمن والقضاء تنصتوا
بشكل غير قانوني على آلاف الجنرالات العسكريين في إطار قضية أرجنكون، وعلى الإسلاميين
في إطار قضية السلام والتوحيد، وأعادوا إنتاج مكالماتهم وحرفوها ولفقوا جرائم بحقهم
ليودعوهم السجون مثلما تنصتوا على أبناء الوزراء الأربعة والآخرين المتهمين بالفساد.
بعد هذه الدعاية
السوداء بدأ جهاز القضاء الجديد منذ بداية عام 2014 يخلي سبيل جنرالات أرجنكون الذين
ما زالوا قيد المحاكمة رغم أن القرارات الصادرة بحقهم وافقت عليها كل من المحكمة الدستورية
والمحكمة العليا ومجلس الدولة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وقد تذمَّر أردوغان
لاحقًا من هؤلاء الجنرالات لعدم تقديمهم الشكر له رغم خروجهم من السجن بفضله(46).
كما صدرت قرارات
بإيقاف ملاحقة المتهمين في كل من قضيتي الفساد والرشوة ومنظمة السلام والتوحيد التي
كانت تتجسس لصالح إيران. علمًا بأن إعلام أردوغان عام 2012 قد دأب على نشر عشرات الأخبار
لأشهر طويلة تتحدث عن تسلل الجواسيس الإيرانيين إلى تركيا في صورة رجال أعمال وأطباء
وممرضات، وصدرت “ثلاثة قرارات إلزامية من ثلاث محاكم عليا في أزمنة مختلفة (2002 و2006
و2014) وصفت هذه المنظمة بأنها “منظمة إرهابية تزاول أنشطة مخابراتية وتجسسية لصالح
إيران”، وأدرجت رئاسة شعبة مكافحة الإرهاب اسم هذه المنظمة في المرتبة الحادية عشرة
في قائمة المنظمات الإرهابية الناشطة في تركيا(47). ورغم هذا كله صدرت قرارات إخلاء
سبيلهم بلا أي ضمانات في موقف غريب لم تشهد تركيا له مثيلا من قبل.
“روح أرجنكون”
انتقلت إلى “جسد أردوغان” بعد تسممّه بالقوة
والسلطة، وشرع يستخدم الأساليب التي كانت تستخدمها قديمًا تلك العصابة المارقة”. “علي
بولاج”.
10ـ حملة انتقامية
واسعة
بعد هيكلة أردوغان
لهذه القطاعات المختلفة في الدولة من خلال عملية الإحلال والتبديل التي بسطت نفوذه
على السلطة القضائية وجهاز الأمن والاستخبارات قاد أردوغان من خلال عناصره الجديدة
في هذه الأجهزة حملة انتقامية واسعة النطاق استهدفت كل أعضاء الأمن والقضاء والبيروقراطيين
المشاركين في تلك القضايا الثلاث. وبدأ يقدم الكيان الموازي مسئولاً عن كل جريمة وقعت
في الماضي، حيث حمله كل الجرائم التي ارتكبتها قديما عصابة أرجنكون طيلة تاريخ الجمهورية،
زاعمًا أن الكيان الموازي من كان يدير ما يسمى بالدولة العميقة والتنظيمات الإرهابية
بما فيها حزب العمال الكردستاني وداعش! لكن هذه الحملات لم تقتصر على موظفي القطاعات
فقط بل امتدت لتشمل القطاع الخاص أيضًا.
ولأن حركة الخدمة
تخاطب نفس الكتلة المحافظة التي يتوجه أردوغان إليها أيضا بالخطاب تدرج في تشويه حركة
الخدمة من خلال اتهام قيادات الحركة بالخيانة والإجرام وتبرئة القاعدة العريضة من المنتمين
للخدمة حتى يحافظ على دعمهم له، حتى كان يكتفي باستخدام وصف الكيان الموازي ونادرًا
ما يصرح باسم حركة الخدمة في البداية. لكن بعد الانقلاب المزعوم طال الاعتقال والتنكيل
الجميع دون تمييز بين قاعدة وقيادات، بل لم يسلم من هذه الاعتقالات حتى الشيوخ والنساء
والأطفال.
وبعد حملات الدعاية
المكثفة التي بدأت بوصفهم بالكيان الموازي المخترق لمؤسسات الدولة، ثم اتهامهم بكل
جريمة ينفر منها الشعب، ووصفهم بالإجرام والخيانة الوطنية، سنَّ أردوغان كل أسلحته
ليجردهم بعد ذلك من المرجعية الدينية السنية، فبدأت سلسلة من الاتهامات تمس العقيدة
الدينية من خلال وصفهم بأنهم حركة باطنية لا دينية أو حركة منحرفة اعتقاديًّا وسلوكيًّا،
واستغل مؤسسة الشئون الدينية وأمرها بإعداد تقارير دينية تتضمن هذا المحتوى؛ والعجيب
في هذا الإطار أنه كان يلجأ لدعاية مضادة لهذه الدعاية عند الحديث عن الخدمة لدى الغرب
حيث كان يصفها بأنها حركة إسلامية متشددة تسعى لقلب النظام من العلماني إلى الإسلامي
في “العالم الغربي”، ووظف في ذلك الاتحاد الإسلامي التركي الأوروبي التابع لمؤسسة الشئون
الدينية، إضافة إلى جهاز المخابرات، اقتداءً بأساليب أرجنكون القديمة.
رفضت حركة الخدمة الخضوع لمطالب أردوغان بـ”المبايعة”
لأنها ترى دائما أن أهم ما يميزها عن غيرها هو استقلاليتها، واعتمادها على نفسها ماليًّا
وبشريًّا.
11ـ قضية تنظيم
“تحشية”
بعد انتهاء الفصل
الأول من فصول استهداف الخدمة عبر التشويه الإعلامي الممنهج، استغل أردوغان القضاء
الذي أعاد هيكلته على مقاسه ليجسد مزاعمه المتعلقة بتدبير حركة الخدمة مؤامرات لاعتقال
أبرياء في قضايا أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستاني والسلام والتوحيد وأمثالها بتهم
ملفقة؛ فقد حاك نظام أردوغان سيناريو هش من خلال اتهام حركة الخدمة بتلفيق اتهام بالإرهاب
لجماعة راديكالية في تركيا يطلق عليها “تحشية”. وتبدأ الحكاية عندما أمر مدير الأمن
العام “أوغوز كاغان كوكسال” في 22 يناير/كانون الثاني 2010 بتنفيذ عمليات أمنية ضد
هذا التنظيم(48) بتهمة ارتباطه بتنظيم القاعدة، في مدن إسطنبول وبورصا ومالاطيا وأكصراي،
بعد أن تلقى تقريرًا في هذا الصدد من رئيس شعبة الاستخبارات الأمنية “حسين نامال”،
وذلك بإشراف المدعي العام “إسماعيل أوتشار”.
واللافت أن مدير
الأمن كوكسال هذا أصبح فيما بعد نائبًا برلمانيًا عن حزب أردوغان، في حين أن المدعي
العام أوتشار هو من قضى في 2014 بإغلاق التحقيق في ملفات الفساد التي انطلقت في 25
ديسمبر/كانون الأول 2013 وطالت نجل أردوغان أيضًا.
وأسفرت هذه العمليات
عن اعتقال 122 شخصًا، في مقدمتهم رئيس التنظيم “محمد دوغان”، إلى جانب العثور على عدد
من القنابل، و7 مسدسات، ومواد متفجرة وألعاب نارية، وخرائط ورسومات خاصة ببعض المواقع
الخطيرة في تركيا، ومن ثم وافقت المحكمة بإسطنبول في 26 يناير/كانون الثاني 2010 على
اعتقال المتهمين في إطار القضية.
وكان حاكم مدينة
إسطنبول آنذاك “معمر جولر” قد أعلن عن هذه العمليات لوسائل الإعلام بالقول: “في 22
يناير/كانون الثاني 2010 نفذتْ عملية ضد تنظيم يَظهر بمظهر الدين، أي ضد تنظيم القاعدة
الإرهابي”.
وقد صار الحاكم
جولر في وقت لاحق نائبًا برلمانيًّا عن حزب أردوغان أيضًا، قبل أن يتسلم حقيبة وزارة
الداخلية (يناير/ كانون الثاني 2013 – ديسمبر/كانون الأول 2013)، كما كان أحد الوزراء
الأربعة الذين أقالهم أردوغان بعد أن وجهت لهم ولأبنائهم تهم الفساد والرشوة في
2013. كما قدم إعلام أردوغان هذه العملية للرأي العام وقتها باعتبارها دليلاً على إنجاز
الحكومة في ملف مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، بالإضافة إلى استخدام وسائل الإعلام الموالية
هذه القضية لتلميع صورة أردوغان قبيل زيارته المرتقبة إلى الولايات المتحدة. وعلّق
كبير مستشاري أردوغان “يكيت بولوت” على العملية في برنامج على قناة (خبر تورك) بقوله:
“يجب علينا إنقاذ الإسلام من عناصر تنظيم القاعدة هؤلاء!”.
أما وزير الداخلية
الأسبق إدريس نعيم شاهين أحد المقربين إلى أردوغان منذ رئاسته لبلدية إسطنبول، الذي
شغل منصب وزارة الداخلية من يوليو/ تموز 2011 إلى يناير 2013، فقد أكد أن القنابل التي
عَثرت القوات الأمنية عليها ضمن حملة “تحشية” هي من نفس نوع القنابل التي عثر عليها
من قبل في إطار عمليات تنظيم “أرجنكون” مشيرًا بذلك إلى وجود علاقة بين التنظيمين الإرهابيين.
أراد أردوغان إخضاع الخدمة لإرادته، واستثمار زخمها
المجتمعي لصالح مشروعه السياسي، وتدجين قوتها بحيث لا تقف أمام طموحاته المحلية والإقليمية.
كما كشفت الوثائق
الرسمية أن جهاز المخابرات تابَع عن كثب تنظيم “تحشية” منذ عام 2004، بل هو من أطلق
عليها اسم “تحشية”، وأعد تقريرًا عنه أكد فيه قربه من تنظيم القاعدة، وأن زعميه محمد
دوغان أعلن عن حبه لأسامة بن لادن، ويُسميه “شعيب بن صالح”، ويدعي أنه “المهدي” و”القائد”.
ثم أرسل هذا التقرير في 17 فبراير/ شباط 2009 إلى رئاسة الأمن العام والأركان العامة
والسلطات الرسمية الأخرى، كما اعترف بذلك الرئيس السابق للمخابرات بالأركان العامة
الجنرال المتقاعد “إسماعيل حقي بكين”، والذي سبق أن اعتُقل في إطار قضية أرجنكون، ويعمل
حاليًّا ضمن “حزب الوطن” بقيادة الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشاك المرتبط
بأرجنكون أيضًا.
وفي 6 أبريل/ نيسان
2009 تعرض الأستاذ فتح الله كولن لهذا التنظيم بالاسم في أحد دروسه الأسبوعية التي
كانت تبث عبر الإنترنت محذرًا محبيه من محاولات لربط الخدمة بهذا التنظيم لإعلانها
منظمة إرهابية حيث قال: “من أجل جرّكم إلى الجرائم الإرهابية وتقديمكم كتنظيمٍ إرهابي،
يبادرون إلى تأسيس تنظيمٍ تحت اسم “تحشية”. وتبعا لهذا التحذير بادرت حركة الخدمة عبر
وسائل إعلامها إلى فضح أمر هذا التنظيم، ونفي أي علاقة تربط الخدمة به، كما تجسد هذا
في بعض جمل وردت في حلقة من عمل درامي كان يعرض على شاشة “سامانيولو” التي تشرف عليها
الخدمة.
ومع أن الأسماء
التي أشرفت على عملية تنظيم “تحشية” هذا قد تولى بعضها فيما بعد مناصب مهمة في حكومة
أردوغان والبعض الآخر معروف عنها أنها شخصيات قريبة من أرجنكون ومعادية لحركة الخدمة،
ومع أن التقارير التي أعدها جهاز المخابرات وأرسلها إلى جميع السلطات الأمنية والعسكرية
هي التي أزاحت الستار عن هذا التنظيم، قبل حديث كولن عنه والمسلسل المعروض على قناة
سامانيولو، فقد أمر أردوغان النيابة العامة في إسطنبول يوم 14 ديسمبر/كانون الأول
2014، خلال الذكرى السنوية الأولى لقضية الفساد والرشوة، بحبس 32 شخصًا ما بين 19 إلى
34 سنة، على رأسهم فتح الله كولن بتهمة إصدار تعليمات لأنصاره في جهاز الأمن بتنفيذ
هذه العملية، وكذلك رئيس مجموعة “سامانيولو” الإعلامية “هدايت كاراجا”، ورئيس مجموعة
“فضاء” الإعلامية المندرج تحتها صحيفة “زمان” أيضًا “أكرم دومانلي”، بالإضافة إلى مجموعة
من مدراء الأمن، وذلك بتهمة “تأسيس وإدارة تنظيم إرهابي مسلح”، و”التزوير في الأوراق
الرسمية”، و”الافتراء” في إطار عمليات “تحشية” المذكورة، والتسبّب في اعتقال المتهمين
“الأبرياء” وتعرُّضهم لمظالم كثيرة. وادعت النيابة العامة أن حركة الخدمة نصبت مؤامرة
لأعضاء هذا التنظيم ولفّقت جرائم وأدلة بحقهم، وذلك ليتمكن أردوغان من إثبات نظريته
القائلة بأن هذه الحركة دبرت مؤامرة ضد وزراء “الفساد” وأبنائهم لتجريمهم وحبسهم وتوظيف
ذلك للإطاحة بحكومته، فيما سماه “الانقلاب القضائي” كما اتهمها بأنها فعلت الشيء نفسه
مع كل من المتهمين في قضايا أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستاني وتنظيم السلام والتوحيد.
ومن خلال ما تم
سرده يتبين مدى هشاشة هذا السيناريو فأول وأكبر قضية رفعت ضد حركة الخدمة كانت هشة
إلى هذه الدرجة، فضلاً عن أن المحكمة التي رفعت هذه القضية هي “محكمة الصلح الجزائية”
التي أسسها أردوغان في أثناء عمليات هيكلة القضاء لصالحه، إثر فضائح الفساد والرشوة
التي طالته ووزراء حكومته. فقد قضت هذه المحكمة بعدم ملاحقة المتهمين بالفساد أولاً،
ثم شرعت في تنفيذ عمليات ضد أعضاء الأمن والقضاء الذين أشرفوا على قضية الفساد والرشوة،
الأمر الذي يخالف مبدأ “القاضي الطبيعي”.
وتكمن أهمية التفاصيل
التي أوردناها في سرد هذه القضية في أنها تشير إلى مدى هشاشة السيناريوهات التي يختلقها
النظام للإجهاز على الخدمة، كما يطلعنا على طبيعة السيناريوهات الأخرى التي تستخدم
في هذا الإطار، حيث لم يتمكنوا من إيجاد سند قوي يدعم مخططاتهم تلك ومن ثم يلجأون إلى
مثل هذا التخبط والتضارب.
إن أردوغان لم
يتمكن من تصفية أعضاء الأمن والقضاء المشرفين على تحقيقات الفساد والرشوة بحجة “الكيان
الموازي” فقط، وإنما تخلص في الوقت ذاته بفضل هذه الحجة من كل الذين يمكن أن يمثلوا
مشكلة له في وقت لاحق، وأعاد تصميم جهازي الأمن والقضاء من ألفه إلى يائه وطمأن نفسه
من جانبهما بتعيين الموالين له أو المتحالفين معه.
سعى أردوغان لإدراج الخدمة ضمن التنظيمات الإرهابية المسلحة،
تمهيدًا للاستيلاء على المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والتعليمية المحسوبة عليها
.
12ـ خطة مكافحة
الرجعية الدينية
لقد استنسخ أردوغان
خطة القضاء على الخدمة من خطة سابقة تحت مسمى “مكافحة الرجعية الدينية”، تحمل توقيع
العقيد “دورسون تشيتشاك” من دائرة الحرب النفسية التابعة لرئاسة الأركان العامة كشفتها
صحيفة “طرف” الليبرالية في 2009، ثم ظهرت نسختها الأصلية في أعقاب التحقيقات. كانت
هذه الخطة تتحدث عن ضرورة ” الإيقاع بين حزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة والقضاء
عليهما معًا في نهاية المطاف” و”تحريك الجواسيس المنتشرين حول حزب العدالة والتنمية”،
و”الدفاع عن المتهمين في إطار قضية أرجنكون” و”الدعاية أن أدلة إدانتهم مزورة وملفقة”
و”أنهم أبرياء اعتقلوا بسبب مكافحتهم الفعالة ضد الرجعية الدينية”، و”تعزيز الأحزاب
القومية ضد حزب أردوغان من خلال إثارة المشاكل مع اليونان”، و”الدعاية أن حزب العدالة
والتنمية يسعى مع حركة الخدمة وأمثالها من الحركات الإسلامية الأخرى لتقويض الدولة
العلمانية وتأسيس دولة الشريعة”، و”إعداد تسجيلات صوتية وتسريبها إلى الإعلام على نحو
يجعل الرأي العام يعتقد براءتنا (يقصد جنرالات أرجنكون) وأن حركة الخدمة من تتنصت على
المتكلمين مباشرة أو هاتفيًّا وتقوم بتسريب المكالمات”.
ولعل أهم ما ورد
في هذه الخطة هو “القيام بأنشطة وفعاليات تهدف إلى توجيه الرأي العام ضد حركة الخدمة
من خلال اتهامها بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي ومركز المخابرات الأمريكية
سي آي إيه والموساد وغيرها من المؤسسات، وتصويرها أنها هي من تقف وراء التحقيقات في
قضية “أرجنكون”، ومن ثم رفع دعوى ضدها تتهمها بأنها: “تنظيم إرهابي مسلح”(49).
كان لظهور تفاصيل
خطة القضاء على حزب أردوغان وحركة الخدمة دوي وصدى كبير في ميدان السياسة والمجتمع
المدني حينها، فقد تقدم مسئولو حزب العدالة والتنمية ببلاغ للنيابة العامة في العاصمة
أنقرة في 16 يونيو/ حزيران 2009. وعبّر أردوغان عن خطورة هذه الخطة بالقول: “إذا نظرنا
إلى بنود الخطة مع عناوينها الرئيسية يتبين أن وراءها مبادرة تسعى إلى تقويض المسار
الديمقراطي في البلاد”، كما أعلن أنه سيتابع الدعوى القضائية عن كثب، وأكد أن القوات
المسلحة لن ترضى أن تشوه سمعتها بمثل هذه المخططات المشؤومة. وقد أسفرت التحقيقات الخاصة
بخطة “مكافحة الرجعية الدينية” عن اعتقال مجموعة من العسكريين، وعلى رأسهم العقيد تشيتشاك
ورئيس الأركان السابق إيلكر باشبوغ(50).
13ـ تفعيل أردوغان
الخطة ضد الخدمة
كشفت تصريحات الصحفي
والنائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري “باريش ياركاداش” في ديسمبر/كانون الأول
2014 خلال برنامج على قناة “خلق تي في” أن أردوغان وضع خطة شاملة لتحميل حركة الخدمة
مسئولية كل الجرائم المرتكبة طيلة فترة حكمه، في محاولة منه للتخلص من فضيحة تورط حكومته
في قضايا الفساد والرشوة في 2013 من جانب ولإشاعة مناخ من الخوف العام في البلاد قبيل
الانتخابات. وقد واكبت هذه التصريحات التي أدلى بها هذا النائب البرلماني الذكرى السنوية
الأولى لانطلاق تحقيقات الفساد، حيث بدأ أردوغان حملته التي تستهدف حركة الخدمة من
خلال توقيف كل من رئيسي مجموعتي سامانيولو وفضاء وعدد من قيادات الأمن.
وتابع ياركاداش
في تصريحاته أن أردوغان قرر القضاء على الخدمة من خلال اتهامها بأنها من كانت وراء
عديد من جرائم القتل التي قيدت ضد مجهول، ولم يعثر على مرتكبها في تاريخ تركيا الحديث،
كاغتيال صحفي أرمني الأصل. كما أوضح أنه كان يخطط لمزيد من عمليات الاعتقال في حق صحفيين
عاملين لدى مؤسسات إعلامية مختلفة، غير أن تسريب هذه الخطة إلى وسائل الإعلام اضطره
إلى أن تقتصر حملة الاعتقالات على الصحفيين المرتبطين بحركة الخدمة فقط، مؤكدًا أنه
سيكمل في وقت لاحق هذه الخطوة باعتقال الصحفيين الآخرين. وأضاف ياركاداش “أن أحد أهداف
هذه العمليات هو السعي لإدراج حركة كولن ضمن التنظيمات الإرهابية المسلحة، تمهيدًا
للاستيلاء على المؤسسات الإعلامية المحسوبة عليها كمجموعات سامانيولو وفضاء وإيباك
الإعلامية”، وأشار إلى أن هناك قائمة تتضمن أسماء 4 آلاف شخص يتم التخطيط لاعتقالهم.
وقد جاءت تصريحات ياركاداش في وقت مبكر حيث كان أردوغان في بداية وضعه اللمسات الأولى
لتفعيل خطته ضد حركة الخدمة ولم تتطور الأحداث بعد إلى هذا الحد(51).
ومن اللافت أن
ياركاداش قد نبَّه إلى أن هدف هذه العمليات الأمنية لن يقتصر على الخدمة فقط وإنما
ستشمل كل المعارضين لأردوغان وحلفائه الجدد، بل سيتم اعتقال هؤلاء المعارضين بتهمة
الانتماء إلى الكيان الموازي حتى ولو لم تكن لهم أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بحركة
الخدمة، كما أوضح أن تطبيق هذه الخطة سيتم بعد تعيين قضاة ونواب عموم موالين لهم وفي
أوقات وظروف مواتية بصورة تدريجية(52).
وقد أثبتت الأحداث
التي تلت هذه التصريحات المبكرة صحة ما ورد فيها حرفيًّا، فقد فعّل أردوغان كل ما ورد
في خطة مكافحة الرجعية الدينية السالف ذكرها، حيث استهدف أردوغان بعد هذا التاريخ حركة
الخدمة مباشرة بعد أن كانت حملاته تقتصر طيلة سنة كاملة قبلها على ما سماه الكيان الموازي،
عقب فضائح الفساد والرشوة، ثم تطورت بعد الانقلاب الفاشل تحت مسمى تحقيقات “منظمة فتح
الله كولن…”. واعتقل مئات الصحفيين وعشرات الآلاف من المواطنين المدنيين والكتاب والأكاديميين
بحجة الانتماء إلى هذه المنظمة حتى الذين عرفوا بعدائهم الشديد للخدمة على مدار حياتهم
من أمثال صحفيي “جمهوريت” الجريدة ذات التوجه العلماني المعروف عنها تطرفها ضد الجماعات
والحركات ذات المرجعية الدينية.
حذا أردوغان “الإسلامي”
حذو أرجنكون تمامًا وتسلم مهمة تنفيذ مشروعها في القضاء على الخدمة من خلال خطة مؤلفة
من ثلاث خطوات…
14ـ اختراع جرائم
مطاطة
كان بوسع أردوغان
أن يعاقب الضباط وأعضاء الهيئة القضائية التي أشرفت على تحقيقات الفساد التي طالت حكومته
وأفرادًا من عائلته قانونيًّا بجرائم ينص عليها القانون التركي من أمثال “سوء استخدام
السلطات” و”تجاوز المهام القانونية”، لكنه وجد أن هذه القوانين لن تسعفه في القضاء
على معارضيه فاحتاج إلى سن قوانين جديدة غير واضحة المعالم يستطيع من خلالها اعتقال
كل معارض، كما تمكنه من السيطرة التامة على كافة أجهزة الدولة فسنَّ عبر نوابه في البرلمان
تهمة “الانتماء إلى الكيان الموازي” وهي تهمة ليس لها تعريف محدد دستوريًّا وقانونًّيا،
ولكنه من خلالها استطاع أن يزج بعدد كبير من معارضيه في السجون والمعتقلات ويعزل عددًا
كبيرًا من وظائفهم ليحل محلهم موالون له ولحلفائه الجدد.
كما سن قانونًا
آخر باسم “قانون الاشتباه المعقول” وضع بموجبه كل من يشتبه صلتهم بمنظمة إرهابية في
المعتقلات حتى تتوفر أدلة إدانته، في مخالفة لمبادئ الدستور والقانون التركيين ومعايير
القانون الدولي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية.
كما أجرى تغييرات
جذرية في الهيئة القضائية ونجح في هيكلة مجلس القضاء الأعلى من خلال عدة تغييرات على
نظامها، وعين فيها موالين له، وأسس محاكم جديدة أطلق عليها محاكم الصلح الجزائية استخدمها
أداة لقمع معارضيه(53).
كانت دائرة العمليات
الأمنية ضد الموظفين في الدولة وأعضاء المجتمع المدني تتسع يومًا بعد يوم بحجة الكيان
الموازي، وكان أردوغان يطيح بكل العقبات التي تقف حجر عثرة أمام طموحاته بهذه العصا
السحرية في الداخل، ويشكل في الوقت نفسه تحالفات جديدة في الخارج.
خامسًا: السعي
لهيكلة الجيش
لم يبق أمام طموحات
أردوغان في تحقيق حلمه الرئاسي سوى السيطرة الكاملة على مؤسسة الجيش في إطار محاولاته
امتلاك كل وسائل القوة في البلاد، وتوسيع صلاحياته التنفيذية والتشريعية والقضائية
بشكل شبه مطلق، وقد نجح إلى حد كبير من خلال استخدام ذريعة “الكيان الموازي” في تطويع
المؤسسة الأمنية، وتقليص صلاحيات القضاء، لكنه كان يحتاج إلى مجموعة من الخطوات تحقق
له السيطرة الكاملة على القوات المسلحة وقد مرت خطته التي تستهدف المؤسسة العسكرية
بالمراحل الآتية:
1ـ الابتعاد عن
الحاضنة الأطلسية
بدأ أردوغان رحلته
السياسية مواليًا للمعسكر الغربي، حتى إنه يعد أحد رؤساء “مشروع الشرق الأوسط الكبير”
كما كان يردد ذلك في بعض خطاباته الجماهيرية. لكن بعد ثبوت اختراقه للعقوبات الأمريكية
المفروضة على إيران، وظهور ذلك إلى العلن مع فضائح الفساد التي تكشفت في نهاية
2013، بدأ يبتعد عن هذا المعسكر رويدا رويدا وينفذ سياسات مستقلة حتى عام 2015. ومع
ابتعاد أردوغان عن المعسكر الغربي بدأت نقاط الخلاف بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية
الموالية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) تزداد يومًا بعد يوم.
وقد تواكبت تلك
الفترة مع تنامي رغبة أردوغان في تأسيس “خلافة إسلامية” يسيطر من خلالها على كل العالم
الإسلامي ويستغني بفضلها عن المعسكرين الغربي والشرقي معًا، وذلك بعد إسقاط الرئيس
السوري بشار الأسد عبر الاستعانة بفصائل المعارضة السورية والتنظيمات الجهادية المسلحة،
وتأسيس دولة إسلامية تابعة له على الأراضي السورية، ومن ثم توظيف الجماعات الإسلامية
في العالمين العربي والإسلامي في تلميع صورته باعتباره خليفة للمسلمين. وقد كانت هذه
النية حاضرة عند أردوغان حتى قبل تأسيسه حزب العدالة والتنمية؛ فقد دعا رئيسَ حزب الاتحاد
الكبير “محسن يازيجي أوغلو” للانضمام إلى حزبه وتنفيذ “مشروع الشرق الأوسط الكبير”
الأمريكي، إلا أن محسن يازيجي رفض ذلك مؤكدًا
“أنّه لا يمكنه ممارسة أي تحركات سياسية مدعومة من قبل الأمريكيين”. وأكد على ذلك بالقول:
“إذا كنتَ ستزاول السياسة مستندًا إلى الشعب فأنا معك. وإلا فالأمريكيون لا يفعلون
شيئا إلا لخدمة أنفسهم”. وعندما رد أردوغان عليه قائلاً: “ننفّذ مطالب أمريكا لفترة،
ثمّ نقوم بخدمة شعبنا. وإذا ما حاولوا منعنا من ذلك ندفعهم بعيدًا عنا ونمضي في طريقنا”.
ردَّ يازجي أوغلو على أردوغان هذه المرة بقوله: “إن أمريكا ليست تلك القوة التي يمكن
دفعها والإفلات منها بهذه السهولة. ولا تنسَ أن مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها
مسحوقًا”(54).
“إن تشجيع أي إنسان
لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”
“فتح الله كولن”.
2ـ انزعاج الجيش
من التحول إلى الحاضنة الأوراسية
كان الجيش الأكثر
انزعاجًا من تحول أردوغان من الحاضنة الأطلسية إلى الحاضنة الأوراسية باعتباره جيشًا
أطلسيًّا يشارك في مهام مشتركة معه في عديد من دول العالم، بعد أن انضمت تركيا إلى
هذا الحلف العسكري الأقوى في العالم في ستينات القرن الماضي، وذلك بالإضافة إلى انزعاجه
الكبير من التطورات الأخيرة في قضايا الجنرالات المرتبطين بتنظيم أرجنكون الموالي للمعسكر
الأوراسي وجواسيس تنظيم “السلام والتوحيد” الموالي لإيران وقيادات تنظيم حزب العمال
الكردستاني. وذلك لأن الجيش بدأ يضع مسافة بينه وبين عناصره المتورطين في أنشطة غير
قانونية، خاصة في عهد رئيسي الأركان “حلمي أوزكوك” الذي لم يخضع لضغوط أرجنكون للانقلاب
على حكومة أردوغان و”نجدت أوزال” الذي خطف الأضواء نحوه بمواقفه الديمقراطية. وليس
هذا فحسب، بل كان الجيش مستاءً من التصفيات والاعتقالات العشوائية بتهمة “الانتماء
إلى الكيان الموازي” وضغوط أردوغان عليه في هذا الصدد. فقد أدلى المسئول والقائد الأعلى
في الجيش رئيس الأركان “نجدت أوزل” بتصريحات صادمة للحكومة والرأي العام في سبتمبر/
أيلول 2014 إذ أكد قائلاً: “نحن لا علم لنا بخارطة الطريق للحكومة فيما يتعلق بمفاوضات
السلام الكردي مع حزب العمال الكردستاني، لذا لا دور لنا في هذه العملية. لكن إذا تم
تجاوز خطوطنا الحمراء فإننا لن نتردد في القيام بما يجب”(55). هذه التصريحات كانت تحذيرًا
من جهة وتبرئة للجيش من الأخطاء التي ترتكبها حكومة أردوغان فيما سمته بمفاوضات السلام
الكردية من جهة أخرى. أما بشأن ضغوط أردوغان عليه فيما يتعلق بتصفية أعضاء الكيان الموازي
في الجيش، فقال أوزال: “القوات المسلحة لا تتحرك إلا في إطار الأدلة والوثائق. لقد
طالبنا كلاًّ من الأمن والاستخبارات بتزويدنا بمعلومات في هذا الموضوع، غير أنه لم
تصلْنَا أية معلومات عنهما، فلا يمكننا إطلاق عمليات بناءً على بلاغات غير موقعة. نحن
نقوم بما يلزم في إطار القوانين”(56). وهذا يدل على أن الجيش كان يرى أن عمليات الكيان
الموازي سياسيّة غير قانونية، وكان على دراية بنية أردوغان إجراء التصفيات عينها في
صفوف الجيش بالحجة ذاتها، كما كان لا يخفي انزعاجه في الوقت ذاته من تصفية أعضاء القضاء
والأمن الناجحين في مكافحة عناصر أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستانية والسلام والتوحيد
بحجة “الانتماء إلى الكيان الموازي”.
3ـ مجلس الأمن
القومي يرفض عبارة “الكيان الموازي”
لم ييأس أردوغان
واستمر في البحث عن طرق لإقناع الجيش أو إجباره على اتخاذ موقف صارم من الكيان الموازي.
ففي الأيام التي سبقت اجتماع أعضاء مجلس الأمن القومي 31 نوفمبر/ تشرين الثاني
2014، كان أردوغان يردد أنه سيتم النظر في أولويات وتهديدات الأمن القومي وتحديدها
من جديد، وأن الكيان الموازي، سيتم ضمّه إلى “قائمة المنظمات المهددة للأمن القومي”،
وذلك تمهيدًا لإعلانه تنظيمًا إرهابيًّا في وقت لاحق. لكن عندما نُشر البيان الختامي
لاجتماع الأمن القومي الذي يتكون معظم أعضائه من العسكريين تحطمت آمال أردوغان، إذ
لم يتضمن البيان أي إشارة إلى “حركة الخدمة” أو “الكيان الموازي”، وإنما ورد فيه عبارة
“كيانات غير شرعية تحت غطاء شرعي”. وهذه العبارة كانت تشير حينها عامة إلى اتحاد المجتمعات
الكردستاني (KCK)، والهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني،
الذي عمل على تشكيل كيانات موازية للدولة في المدن الشرقية والجنوبية الشرقية من خلال
تأسيس محاكم خاصة به وإجراء محاكمات بعيدًا عن المحاكم الرسمية. فرغم إطلاق أردوغان
مصطلح الكيان الموازي على حركة الخدمة بعد أن وصف به هذا الاتحاد من قبل، لكنه لم يستخدمه
بصورة الجمع (الكيانات) في أي وقت، بل اعتاد على استخدامه في صورته المفردة (الكيان)
دائما، أما عبارة “الكيانات الموازية” فكانت من اختراع أحمد داود أوغلو. فرغم تسليم
أردوغان منصب رئاسة الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية إلى داود أوغلو مشيدًا بـ”عزمه
على مكافحة الكيان الموازي”، إلا أن داود أوغلو، دأب منذ تحقيقات الفساد على الحديث
عن “الكيانات الموازية” مستخدما عبارة “كل كيان موازٍ” بدلاً من “الكيان الموازي”.
لذلك فقد فضَّل داود أوغلو وأعضاء مجلس الأمن القومي العسكريون عبارة “الكيانات الموازية”
رافضين عبارتي “الكيان الموازي” أو “حركة الخدمة” اللتين كان يصر أردوغان على ذكر أحدهما
على الأقل في البيان، مما يدل على تباين في الآراء بين أردوغان وداود أوغلو من جانب،
وبين أردوغان والجيش من جانب آخر(57). وهذا هو سبب إقالة أردوغان لداود أوغلو في مايو/
أيار 2016 رغم حصول الأخير على نصف تأييد الشعب التركي في انتخابات نوفمبر / تشرين
الثاني 2015.
“الأتراك لا يخترقون
مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق مشروع… في إطار القوانين واللوائح
الخاصة بتلك المؤسسات دون أي مانع” فتح الله كولن.
4ـ المخابرات العامة
تورط المؤسسة العسكرية في “حادثة أولو دره”
كان أردوغان يريد
أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه من خلال تسوية القضية الكردية المزمنة، لكنه في الوقت
ذاته كان يراها أداة يمكن استخدامها في تلميع صورته وتأسيس نظامه الذي يرنو إليه. فسعى
في البداية إلى تحقيق ذلك عبر التحقيق القضائي مع الجناح المدني لحزب العمال الكردستاني
أو ما يسمى “اتحاد المجتمعات الكردستاني” (KCK)
من جانبٍ والعمليات الأمنية والعسكرية ضد جناحه المسلح حزب العمال الكردستاني من جانب
آخر. وفي الوقت الذي كانت قوات الأمن والقوات المسلحة تكافحان العناصر المسلحة بشكل
محترف وناجح لأول مرة في تاريخهما في عهد وزير الداخلية إدريس نعيم شاهين
(2010-2011) بدأ أردوغان مفاوضاته مع العمال الكردستاني من أجل السلام برعاية بريطانية،
وكانت هذه النقطة مثار خلاف بين أردوغان والمؤسسة العسكرية، كما تبين من خلال تصريحات
رئيس الأركان السابق ذكرها. لذلك كان أردوغان بحاجة إلى ذريعة لوقف تحقيقات اتحاد المجتمعات
الكردستاني والعمليات الأمنية والعسكرية ضد عناصره المسلحة.
وفي عام 2011 تعرض
الجيش التركي لمؤامرة خبيثة مدروسة جيدا تسبّبت في وقوع ما يسمى بـ”حادثة أولو دره”،
التي أسفرت عن مقتل 34 كرديًّا مدنيًّا يهربون بضائع على الحدود العراقية – التركية
في وقت كان العمال الكردستاني يعيش أصعب أيامه. وقد حمّلت رئاسة هيئة الأركان العامة
جهاز المخابرات (MIT) برئاسة هاكان فيدان، الذي يصفه أردوغان بـ”كاتم
أسراره”، مسؤولية الغارة الجوية “الخاطئة” بسبب تقرير أرسله إليها حول استعداد “فهمان
حسين”؛ أحد زعماء العمال الكردستاني، لهجوم إرهابي في المنطقة المذكورة(58). كما اتهم
وزير الداخلية الأسبق إدريس نعيم شاهين جهاز المخابرات ووصف الحادثة بـ”مؤامرة مدبرة
من قبل جهاز المخابرات ضد الجيش”، حيث أكد أن “مسؤولاً رفيع المستوى من جهاز المخابرات”
أعطى معلومات للقوات المسلحة تفيد بأن “باهوز أردال” أحد قياديي العمال الكردستاني
البارزين يعبر الحدود، وبناء على هذه المعلومة قصفت المقاتلات الجوية مجموعة من المهرّبين
على أنهم مجموعة إرهابية”(59).
ثم أعلن أردوغان
في 29 ديسمبر / كانون الأول 2012 أمره بوقف العمليات الأمنية والعسكرية ضد المليشيات
المسلحة من جانب، ومن جانب آخر أمر رئيس مخابراته فيدان بالبدء في إجراء مفاوضات مع
زعيم العمال الكردستاني في محبسه لبدء مفاوضات السلام الكردية، وتبع ذلك إقالة وزير
الداخلية “شاهين” الناجح في مكافحة الذراعين المدني والمسلح للعمال الكردستاني، بـ”رجاء”
من أوجلان، على حد تعبير الوزير ذاته(60).
وبهذه الخطوات
تم تكبيل أيدي القوات الأمنية والعسكرية التي كانت على وشك الإجهاز على العناصر الإرهابية
المسلحة، وأرسلت أطواق النجاة التي أنقذت العمال الكردستاني من التمزق والانحلال حيث
أضفت الشرعية على هذا الحزب المسلح وجعلته طرفًا شرعيًّا يتفاوض رسميًّا مع الحكومة
نيابة عن الأكراد، بينما كان الأولى أن يتم التواصل مع الشعب الكردي الذي هو الضحية
الحقيقية لإرهاب أرجنكون بقسميه الكردي والتركي.
استنسخ أردوغان
خطة القضاء على الخدمة من خطة سابقة باسم “مكافحة الرجعية الدينية”، بتوقيع العقيد
“دورسون تشيتشاك” من دائرة الحرب النفسية.
5ـ صفقة سرية مع
أوجلان
وجه أردوغان رئيس
مخابراته “فيدان” بنشر عناصر مخابراتية سرية في صفوف “اتحاد المجتمعات الكردستاني”،
في محاولة للسيطرة من خلالها على حزب العمال الكردستاني، وتلميع صورة أردوغان وأوجلان
باعتبارهما زعيمين قوميين للأتراك والأكراد يتفقان على نبذ العنف والسلاح لبناء تركيا
الجديدة على كواهل شعبين شقيقين. لكن المعارضة التركية أبدت تخوفها واستياءها من التقارب
والتداخل بين المخابرات واتحاد المجتمعات الكردستاني، إذ اتهم حزب الشعب الجمهوري المخابرات
بتأسيس وإدارة هذا الاتحاد(61)، كما اتهم زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشالي أردوغان
بـ”الخضوع لمشاريع رأس المنظمة الإرهابية عبد الله أوجلان”.
لكن المشكلة أن
أردوغان كان يجري مفاوضات سرية بعيدًا عن رقابة البرلمان، التي كانت المعارضة تطالب
بها تفاديًا لأي استغلال سياسي لقضية كبيرة مثل القضية الكردية. وقد تم اكتشاف ذلك
من خلال تسريبات نشرتها جريدة “ملّيَتْ”، وردت إليها من “جهات مجهولة” في 28 فبراير/
شباط 2013 لمحاضر المحادثات التي دارت بين وفد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وعبد الله
أوجلان في محبسه بحضور مسئولين من المخابرات في إطار “مفاوضات السلام الكردية”، وقد
انزعج أردوغان من هذه التسريبات إلى حد كبير، لأنها كشفت عن “الوعود” التي تعهد بها
لحزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان أو بعبارة أصح “الاتفاقية السرية” بين الطرفين.
وفي أحد هذه المحاضر
قال النائب الكردي “سري ثريا أوندر” لأوجلان: “هناك قضية انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي.
الرأي العام حساس جدًّا حيال هذا الموضوع”. فرد عليه أوجلان: “من الممكن أن نفكر في
النظام الرئاسي ونتبناه، فنحن ندعم رئاسة السيد رجب طيب أردوغان. لذلك يمكننا الاتفاق
معه على أساس هذا النظام الرئاسي”. وعندما تساءل أوندر: “ولكن كيف سيكون حينها وضعكم
وموقعكم؟”، أجاب أوجلان: “عندها لن يكون هناك حبس، ولا إقامة جبرية، ولا عفو. لن يبقى
هناك أي داعٍ لمثل هذه الأمور؛ لأننا سنصبح أحرارًا جميعًا”(62). ويفسر هذا التسريب
أن المفاوضات كانت تجرى على أساس أن يكون النظام الرئاسي مقابل حرية أوجلان ومنحه حكمًا
ذاتيًّا في المناطق الكردية.
وفي إطار تحالفها
مع العمال الكردستاني استضافت حكومة أردوغان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري
“صالح مسلم” في العاصمة أنقرة أكثر من مرة، بل إن جهاز المخابرات ساعده عبر اتحاد المجتمعات
الكردستاني في إنشاء مناطق ذاتية الحكم في الشمال السوري.
قطع أردوغان أشواطًا
عريضة نحو نظامه الشخصي بفضل تحالفاته المثيرة والمتناقضة، فقد تحالف من جانب مع العمال
الكردستاني وامتداده السوري على أساس مصالح مشتركة يحققها كل طرف، وتحالف من جانب آخر
مع تنظيم داعش وأمثاله من التنظيمات الجهادية المقاتلة في سوريا لإسقاط الأسد.
وتحالف أردوغان
مع المجموعات والتنظيمات الجهادية، كان يصبّ في مصلحة حليفه “أرجنكون” الذي كان يخطط
لإقحام الجيش في حرب انتقامًا من قياداته التي دعمت عمليات التحقيق مع جنرالات أرجنكون،
ورغبة في إثارة الفوضى في المؤسسة العسكرية لتسقط في يده في نهاية المطاف، وينجح في
تحويل وجهتها من المعسكر الغربي إلى الأوراسي الذي يدعمه، كما كانت تصبّ في مصلحة حليفه
الآخر “الإسلاميين” الموالين لإيران حيث كانت تسعى لتقديم الرئيس السوري بشار الأسد
للمجتمع الغربي كزعيم علماني يناضل ضد التنظيمات الجهادية التي تعتبر البديل الوحيد
حال رحيله.
اقترح فيدان “شنّ
هجوم على ضريح سليمان شاه” جد أول سلطان للدولة العثمانية الموجود على الأراضي السورية، لاختلاق ذريعة للتدخل العسكري في سوريا.
6ـ فضيحة تسليح
التنظيمات الجهادية
بحلول عام
2014 زادت ضغوطات أردوغان وإعلامه على الجيش التركي للتدخل العسكري في الأزمة السورية،
إلا أن رئيس الأركان الحالي “خلوصي أكار” رفض ذلك في فبراير/ شباط 2016 بصورة قاطعة
معلنًا استحالة هذا الأمر ما لم يكن هناك قرار صادر من الأمم المتحدة(64)، الأمر الذي
أحبط آمال أردوغان من جهة ودفعه إلى البحث عن بدائل أخرى في هذا الصدد من جهة أخرى.
نظرًا لأن امتداد
العمال الكردستاني في سوريا؛ حزب الاتحاد الديمقراطي، لم يرض بالاشتباك مع قوات الأسد
بدأ أردوغان يعول على التنظيمات الجهادية كجبهة النصرة وأحرار الشام وداعش أكثر في
عام 2014 لتوسيع نفوذه على الأراضي السورية.
وفي 19 يناير/
كانون الثاني 2014 شهدت مدينة هاتاي الحدودية حادثة مدوية صادمة للشارع التركي والدولي،
فقد نفذت قوات الشرطة بالتعاون مع قوات الدرك عملية بأمر النيابة العامة ضد ثلاث شاحنات
كبيرة تابعة للمخابرات محملة بالأسلحة والصواريخ في طريقها إلى الأراضي السورية. وقد
حاول أردوغان في البداية التكتم على الموضوع، ونفى إيقاف الجيش لهذه الشاحنات، وكذب
كونها تابعة للمخابرات، مدعيًا أنها شاحنات مساعدة تابعة لهيئة الإغاثة الإنسانية
(IHH)، ثم اضطر إلى القبول عقب نشر الوثائق الخاصة
بها، وزعم هذه المرة أن حمولة هذه الشاحنات كانت مساعدات إنسانية وليست أسلحة. لكن
بعد ثلاثة أيام (21 يناير/ كانون الثاني) نشرت صحيفة “آيدينليك” الموالية لأرجنكون
صورا فوتوغرافية لحمولة الشاحنات لتكشف أن “المساعدات” المزعومة ما هي إلا عبارة عن
صواريخ. ثم نشرت صحيفة جمهوريت في 29 مايو/ أيار 2014 مقطع فيديو يكشف ملابسات إيقاف
شاحنات المخابرات والأسلحة بداخلها.
ساق أردوغان ومسئولون
حكوميون مزاعم مختلفة بل متناقضة لما كانت تحويه تلك الشاحنات، حيث ادعى أردوغان في
24 يوليو/ تموز 2014 أن الشاحنات كانت تحمل مساعدات إلى التركمان، وهذا كان رأي رئيس
الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الداخلية الأسبق “أفكان علاء” أيضا. لكن “ياسين
أقطاي”؛ نائب رئيس حزب العدالة والتنمية وأحد مستشاري أردوغان، صرّح بأن الشاحنات كانت
محملة بالأسلحة ومتجهة إلى الجيش السوري الحر. بينما أنكر “إبراهيم كالين”؛ كبير مستشاري
أردوغان والمتحدث باسم الرئاسة تلك التصريحات، زاعمًا أن المخابرات لم ترسل قط شاحنات
أسلحة إلى أي مجموعة من المجموعات المعارضة المقاتلة ضد النظام السوري. ثم خرج عضو
حزب الحركة القومية السابق الذي تسلم فيما بعد منصب نائب رئيس الوزراء طغرول توركاش
نافيًا كل هذه المزاعم ومقسمًا: “والله إن تلك الشاحنات لم تكن مرسَلة إلى التركمان
أبداً.” كما خرج نائب رئيس المجلس التركماني السوري حسين العبد الله لينفي صحة كل مزاعم
أردوغان في تصريحات أدلى بها في 4 يناير/ كانون الثاني 2014 قائلاً: “لم نحصل من حكومة
أنقرة على أي مساعدات مسلحة أو أي شكل من أشكال المساعدات”(66).
ورغم هذه التصريحات
المتناقضة، ونشر صحيفتي آيدينليك وجمهوريت المعارضتين بشكل صارخ لحركة الخدمة لهذه
الأخبار، فإن أردوغان المسيطر على معظم وسائل الإعلام سوق هذه الحادثة باعتبارها دليلاً
على تغلغل ما أسماه “الكيان الموازي” داخل المؤسسة العسكرية وانتهز هذه الفرصة لإعداد
الرأي العام وتوجيهه إلى ضرورة إجراء التصفيات التي كان يخطط لها منذ زمن وإعادة هيكلة
كافة الأجهزة لتتوافق مع المشاريع التي يريد تنفيذها على الأراضي السورية. ومن الغريب
جدا اتهام أردوغان لجريدة “جمهوريت” المعروف عنها عداؤها الشديد لحركة الخدمة طوال
تاريخها بالتبعية للكيان الموازي، والكشف عن أسرار الدولة. وعدم تعرضه لصحيفة آيدينليك
مع أنها كانت أول من نشر خبر الشاحنات قبل جمهوريت بنحو 5 أشهر.
من الغريب جدا
اتهام أردوغان لجريدة “جمهوريت” المعروف عنها عداءها الشديد لحركة الخدمة طوال تاريخها
بالتبعية للكيان الموازي، والكشف عن أسرار الدولة.
7ـ اختلاق ذريعة
للدفع بالجيش إلى سوريا
في 24 من مارس/آذار
عام 2014 اهتزت تركيا أيضًا إثر تسريب تسجيل صوتي رُفع على موقع يوتيوب من حسابٍ بعنوان
“@secimgudumu”، تضمن المحادثات التي جرت في اجتماعٍ حضره كلٌّ
من وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو ومستشار وزارة الخارجية فريدون سنرلي أوغلو
ورئيس المخابرات هاكان فيدان والقائد الثاني للأركان فريق أول ياشار جولر.
ورغم الفضيحة التي
شكلتها إمكانية تعرض اجتماع مهم وسري إلى هذه الدرجة للتنصت وتسريبه إلى الإعلام الاجتماعي
فإن محتوى المحادثات التي تضمنها هذا الاجتماع كان أفدح وأخطر، فقد كشف داود أوغلو
في التسجيل الصوتي عن رغبة أردوغان في تنفيذ عملية عسكرية في سوريا، بينما قال فيدان:
“من الممكن أن نرسل أربعة من رجالنا إلى الجانب السوري، ليقوموا بإلقاء صواريخ على
الجانب التركي من هناك، من أجل خلق ذريعة لازمة للتدخل العسكري في سوريا إن تطلب الأمر
ذلك”. وأكد أن الحدود التركية – السورية لا تفرض عليها رقابة صارمة، وأن تركيا من الممكن
أن تشهد تفجيرات في أي مكان؛ فيما كان الجنرال جولر يلفت الانتباه إلى ضرورة نقل أسلحة
وذخائر إلى المعارضة السورية تحت إشراف المخابرات، وأوضح أن القطريين يبحثون عن ذخائر
مقابل أموال، وأنه في حال إصدار وزراء معنيين تعليمات يمكنهم أن يطلبوا من مؤسسة الصناعات
الميكانيكية والكيميائية التابعة للجيش تصنيع أسلحة. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعترف فيدان
بإرسال نحو ألفي شاحنة من الذخيرة إلى سوريا. وفي إطار بحثهم عن “ذريعة” للتدخل العسكري
في سوريا، اقترح فيدان أيضًا “شنّ هجوم على ضريح سليمان شاه”؛ جد أول سلطان للدولة
العثمانية، الموجود على الأراضي السورية، وهو ما تم لاحقا، ثم نقل الضريح إلى مكان
قرب الحدود التركية (66).
هذا التسجيل الصوتي
يحتوي على معطيات رائعة لتحليل “العقلية” التي كان أردوغان وفريقه يديرون بها تركيا
وكيف يتعاملون مع القضايا الداخلية والخارجية.
ومع عدم وجود أدلة
قاطعة على الجهة التي سربت هذا التسجيل، لكن من المرجح أن تكون القيادة العسكرية العليا
التي كانت على خلاف مع أردوغان بشأن التدخل العسكري في سوريا هي من سربت مقطع الفيديو
الخاص بشاحنات المخابرات وهذا الاجتماع السري لتشكيل رأي عام معارض. لكن أردوغان كعادته
اتهم حركة الخدمة بالوقوف وراء هاتين الحادثتين ووظفهما في تعزيز مصطلح “الكيان الموازي”
الوهمي وتضخيمه لتهيئة الأرضية للتصفيات التي يعتزم إجراءها في صفوف الجيش والتي خطط
لها مع حلفائه من عصابة أرجنكون، والإسلاميين الذين كانوا يسعون إلى توجيه أردوغان
من المعسكر الأطلسي إلى المعسكر الأوراسي.
8ـ دميرتاش يفسد
اللعبة بين أردوغان وأوجلان
كلما اقترب أردوغان
من التنظيمات الجهادية في سوريا ابتعد عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المدعوم من
التحالف الدولي لمكافحة داعش، وهذا أدى إلى تفاقم صراع النفوذ بين التنظيمين، لكن همّ
أردوغان كان منصبًّا على السعي للاستفادة منهما واستخدامهما في سبيل تحقيق أهدافه في
الداخل التركي وخارجه.
بالتوازي مع التوجه
إلى القوى غير الديمقراطية كأرجنكون بنوعيه التركي والكردي في الداخل، والمعسكر الأوراسي
في الخارج، خسر أردوغان حلفاءه الديمقراطيين والليبراليين في تركيا. وقد انعكس هذا
الأمر على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 7 حزيران 2015؛ إذ فقد حزب أردوغان
أغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ وصوله إلى الحكم بحصوله على 40 % من أصوات الناخبين
فقط، الأمر الذي منع حزبه من تأسيس حكومة منفردة. وهذا الأمر كان يشكل خطرًا كبيرًا
على مستقبل أردوغان والنظام الذي يتطلع إليه حتى ولو كان حزبه الشريك الأقوى في حكومة
ائتلافية محتملة؛ فقد كان بحاجة إلى حكومة منفردة قوية لحزبه حتى ينقذ نفسه من احتمالية
المحاكمة على جرائمه في الفساد والإرهاب من جهة ويضمن نقل تركيا إلى النظام الرئاسي
من جهة أخرى.
كان حزب الشعوب
الديمقراطي الكردي بقيادة صلاح الدين دميرتاش هو من تسبب في حصول هذه النتيجة الكارثية
لأردوغان. فرغم الاتفاقية بين أردوغان وأوجلان القاضية بدعم الأكراد لحزب أردوغان مقابل
حرية أوجلان والحكم الذاتي في المناطق الكردية، فإن دميرتاش تغاضى عن هذه الاتفاقية
السرية وتحدى أردوغان قائلا: “لن نسمح لك بإقرار النظام الرئاسي في تركيا”، فتخطى حزبه
العتبة الانتخابية وحقق نجاحًا كبيرا بحصوله على 80 مقعدًا ودخوله إلى البرلمان كحزب
مستقل بعد أن كان الأكراد يدخلون البرلمان فرادى كمرشحين مستقلين، الأمر الذي دفع أردوغان
إلى الانتقام منه باعتقاله بذريعة دعمه لتنظيم إرهابي تفاوض هو نفسه معه لإقامة السلام
الكردي.
وبعدما نقض الأكراد
بنود هذه الاتفاقية، سواء كان برضا أوجلان أو رغم أنفه، زال “السبب” الذي كان أردوغان
يجري مفاوضات السلام معه من أجله، فزعم في 17 يوليو/ تموز 2015 أنه لم يكن على علم
بمحادثات “دولما باهتشه” التي أجرتها حكومة داود أوغلو مع النواب الأكراد لإضفاء الصفة
الرسمية على تلك المفاوضات، وأكد أنه لا يوافق عليها، رغم أنه من أطلق تلك المفاوضات
وأعلن دعمه لها طيلة السنوات الماضية. لكن أردوغان كان بحاجة إلى ذريعة لإنهاء المفاوضات
بشكل رسمي، كما احتاج من قبل إلى ذريعة لوقف العمليات الأمنية والعسكرية لإطلاق تلك
المفاوضات.
9ـ توظيف الإرهاب
لإعادة الحكومة المنفردة
في 22 يوليو/ تموز
2015 وقع هجوم انتحاري نسب إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، استهدف شبابًا مناصرين للقضية
الكردية بمركز ثقافي في بلدة سوروتش الحدودية مع سوريا، وأودى بحياة 32 شخصًا على الأقل.
كما عثرت القوات الأمنية في صبيحة هذه الواقعة على شرطيين قتلا في فراشهما ببلدة “جيلان
بينار”. ومع نسبة هذا الهجوم إلى العمال الكردستاني بادعاء الانتقام من شرطيين كانا
على اتصال بداعش الذي قتل 32 كرديًّا أمس، إلا أن “ديمهات آجيت” المتحدث باسم اتحاد
المجتمعات الكردستاني نفى صحة هذا الادعاء(67)، ونوّه الكاتب الكردي المعروف “أميد
فرات” بأن الأسلوب المستخدم في قتل الشرطيين ليس من أساليب العمال الكردستاني المعهودة،
مؤكدًا أن “الجهة” التي أمرت بتنفيذ الهجوم جعلت بعض المجموعات المرتبطة بالعمال الكردستاني
تتبنى هذا الهجوم(68).
بعد أسبوع من هذين
الهجومين المنسوب أحدهما لداعش والآخر للعمال الكردستاني، وعلى وجه التحديد في 28 يوليو/تموز
2015، أعلن أردوغان بشكل رسمي انتهاء مفاوضات السلام الكردية، مما يدل على أنه نجح
في اختلاق الذريعة اللازمة للنكوص عن سياسته القديمة وليبدأ بعدها فترة جديدة مليئة
بالاشتباكات الدموية. ومن اللافت أيضا في هذا الصدد ما قاله يالتشين أكدوغان، كبير
مستشاري أردوغان لصلاح الدين دميرتاش عقب تحديه أردوغان ودخوله البرلمان وعرقلته تشكيل
حكومة منفردة: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي، فإنه لا يمكن أن يحدث
غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلمًا
سينيمائيًّّا بعنوان مسيرة السلام الكردية فقط”(69)
ولما فقد أردوغان
دعم الأكراد احتاج إلى موجة قومية ليعوِّض خسارته هذه بالحصول على أصوات القوميين الأتراك،
كما عوّض خسارته دعم الليبراليين والديمقراطيين بالتحالف مع أرجنكون التركي والكردي
والإسلاميين من قبلُ. وبعد الإطاحة بطاولة مفاوضات السلام الكردية اتخذ أردوغان قرارًا
بالعودة إلى العمليات المسلحة ضد العمال الكردستاني، لكن الفارق هذه المرة أن العمليات
الأمنية الجديدة لم تقتصر على المناطق الجبلية فقط وإنما وسع أردوغان نطاقها لتشمل
المناطق والبلدات المأهولة بالسكان “المدنيين” من المواطنين الأكراد. وبعد عودة النزاع
المسلح بين الطرفين مرة أخرى تحولت كل أنحاء تركيا إلى ساحة دماء بسبب الهجمات المنسوبة
للعمال الكردستاني والتي حصدت أرواح أكثر من ألف فرد من عناصر الأمن وحوالي 10 آلاف
من عناصر العمال الكردستاني، بالإضافة إلى مئات المواطنين المدنيين.
ولا شك أن استئناف
أردوغان للعمليات الأمنية وتحويل شرق تركيا إلى ساحة حرب فيما يشبه العقاب الجماعي
للأكراد جميعًا بسبب عدم تصويتهم له في انتخابات 7 يونيو/ حزيران السابقة أسهم في ترسيخ
الانفصال الذهني والعاطفي لدى الأكراد؛ كما ساعدت هذه العمليات في الوقت نفسه على توجه
القوميين بقيادة حزب الحركة القومية إلى دعم حزب العدالة والتنمية.
وفي 10 أكتوبر
/ تشرين الأول 2015 شهدت العاصمة أنقرة أكبر مجزرة إرهابية دموية على مدى تاريخ تركيا
نسبت إلى داعش أيضًا، استهدفت عشرات الآلاف من المشاركين في تظاهرة بعنوان “العمل والسلام
والديمقراطية”، مما أدى إلى مقتل أكثر من 110 أشخاص وإصابة المئات، أغلبهم من الأكراد.
وكشفت التحقيقات أن منفذ العملية هو المدعو “يونس أمره آلاجوز” شقيق “الشيخ عبد الرحمن
آلاجوز” الذي نفذ هجوم سروتش قبل 3 أشهر من هذا الحادث وقتل 32 شابًا كرديًّا أيضًا.
لكن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش اتهم “الدولة” حينها بالوقوف وراء
هذا الهجوم(70).
كما كشفت وثيقة
“سرية للغاية” أعدها مركز الاستخبارات التابع للاتحاد الأوروبي أن الهجوم الإرهابي
الذي وقع بالعاصمة أنقرة عام 2015 وحصد أرواح أكثر من 100 مواطن مدني تم بـ”تكليف خاص”
من حكومة حزب العدالة والتنمية نفسها لعناصر داعش(71).
ومن العجيب جدًّا
ما صرح به رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو بعد بضعة أيام من هذا الهجوم الدموي، حيث قال:
“لقد أجرينا استطلاعًا للرأي بعد مجزرة أنقرة الإرهابية لجسّ نبض الرأي العام، ولاحظنا
ارتفاعًا ملموسًا في نسبة الدعم لحزبنا”(72)، وقد دفعت هذه التصريحات المعارضة للتقدم
باستفسار برلماني دعت فيه داود أوغلو إلى الكشف عن دلالة هذه التصريحات.
كان من المخطط
إطلاق عمليات ضد حركة الخدمة في 2007، لكن لما انطلقت الحملات الأمنية في إطار قضية
أرجنكون تأجلت تلك العمليات بالضرورة إلى وقت لاحق”.
10ـ استعادة الحزب
تشكيل الحكومة منفردًا بأصوات القوميين
رغم أن أردوغان
هو من أمر بوقف العمليات الأمنية ضد عناصر العمال الكردستاني، لبدء مفاوضات السلام،
وهو نفسه الذي استأنف العمليات العسكرية ضدها بعد فقدانه دعم الأكراد، فإنه حمّل الجيش
فاتورة مئات القتلى من المدنيين والعسكريين في هذه الاشتباكات والعمليات الإرهابية،
مما أثار استياء القوات المسلحة من هذه المواقف، ودفع قياداتها إلى التصريح مرارًا
بأن مسؤولية مفاوضات السلام ونتائجها مسؤولية السلطة السياسية وحدها ولا دخل للجيش
فيها، كما ورد سابقا على لسان رئيس الأركان.
آتت “لعبة الإرهاب”
بين داعش والعمال الكردستاني أكلها وحققت “المطلوب” منها لحزب العدالة والتنمية وهو
توجه أصوات القوميين إلى حزب العدالة والتنمية، فأعلن أردوغان عن انتخابات برلمانية
مبكرة في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني 2015 واستعاد حزبه تشكيل الحكومة منفردًا
على طبق من ذهب بعد أن حصد دعم نصف الناخبين، بفضل أصوات القوميين، وهو ما فعله مجددًا
قبل الاستفتاء الشعبي حول النظام الرئاسي حيث عقد تحالفًا مع حزب الحركة القومية، وأطلق
أولاً عملية درع الفرات في الأراضي السورية لإثارة موجة قومية جديدة في الداخل، ثم
حصل على موافقة الشعب على هذه التعديلات الدستورية بشكل أو بآخر عام 2017، ثم نفذ عملية
“غصن الزيتون” العسكرية في شمال سوريا ضد مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري،
وأعلن في 18 أبريل/ نيسان 2018 عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو/ حزيران
2018 استطاع من خلال تحالفه مع القوميين أيضا أن يصبح “رئيس الدولة” في ظل النظام الرئاسي
الذي يوسع من صلاحيات الرئيس، ليضمن مستقبله ومستقبل حلفائه في ظل هذه الصلاحيات شبه
المطلقة.
11ـ البحث عن ذريعة
لهيكلة الجيش
يتبين مما سبق
أن العلاقات بين أردوغان وقيادات القوات المسلحة لم تكن مريحة لكليهما. فأردوغان كان
يسعى لتحويل الجيش إلى “أداة طيعة” في يده باستغلال ذريعة “الكيان الموازي” ليحقق طموحه
الداخلي في انتقال البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي؛ وحلمه الخارجي في إسقاط
النظام السوري برئاسة بشار الأسد الذي بات يمثل له مسألة شخصية وعقدة نفسية، طمعًا
في إعلان نفسه زعيم العالم الإسلامي أو “خليفة المسلمين” باعتباره “فاتح الشام” و”محرك
الثورات العربية”. غير أن أردوغان شعر بأن الجيش لن يسمح له باستغلاله لتحقيق هذه الطموحات،
وقد برز ذلك من خلال تصريحات رئيس الأركان الذي حمّل جهاز المخابرات التابع لأردوغان
مسئولية قتل 33 كرديًّا مدنيًّا بالخطأ، وإعلان قيادات مهمة في الجيش عن انزعاجها من
أي تصفيات تقوم بها السلطة السياسية في المؤسسة العسكرية بذريعة “الكيان الموازي” على
غرار ما حدث في أجهزة الأمن والسلطة القضائية.
ويرجح بعض المحللين
أن الجيش كان له يد في الكشف عن شاحنات المخابرات المحملة بالأسلحة، وفضيحة تسريب خطة
رئيس المخابرات لاصطناع ذريعة للتدخل العسكري في سوريا، وأن قياداته كانت منزعجة من
توظيف إرهاب داعش والعمال الكردستاني في الداخل وسوريا والمنطقة وإقحام تركيا في جرائم
دولية، كما أشارت حادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية قرب الحدود السورية ثم اعتذار
أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يونيو/ حزيران 2016 بعدها ودعوته إلى إصلاح
العلاقات بين تركيا وروسيا إلى انحيازه إلى المعسكر الأوراسي، وهو ما يجعل هذا الجيش
“الأطلسي” عصيًّا على التطويع فضلا عن مشاطرة أردوغان في طموحاته وأطماعه داخليًّا
وخارجيًّا.
كل ذلك عزز رغبة
أردوغان في إعادة هيكلة الجيش بعد الأمن والقضاء، وقد لاقت هذه الرغبة صداها الإيجابي
عند كل من حليفيه عصابة أرجنكون الموالية للمعسكر الأوراسي وتيار الإسلام السياسي الموالي
لإيران؛ فالأول كان يرى أن الجيش هو المسئول الحقيقي عن قضية أرجنكون حيث سمحت قياداته
للقضاة المدنيين بمحاكمة الجنرالات والضباط العسكريين ومن ثم فهو يتحين الفرصة للانتقام؛
في حين كان الثاني يعتبر ذلك فرصة ذهبية لاختراق الجيش التركي عبر الميلشيات الإسلامية
لصالح إيران. ويعني ذلك أن أردوغان بعد أن أمر بتعليق تحقيقات قضيتي تنظيمات أرجنكون
بشقيه التركي والكردي والسلام والتوحيد والإفراج المشروط عن كل المتهمين في إطار هاتين
القضيتين فقد حان الدور على الجيش للانتقام منه وإعادة تصميمه وفق رغبات هذا التحالف
الثلاثي.
أعلن برينتشاك
من “إيران” أنهم صفوا الجنرالات والضباط الأتراك الموالين للناتو بعد هذا الانقلاب
المدبر بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” الجاهزة.
12ـ تصفية الجيش
بانقلاب صوري
يدل ما أدلى به
أردوغان من تصريحات ليلة الانقلاب الفاشل على نيته المبيتة في إعادة هيكلة الجيش وفق
أهوائه حيث قال: “هذه المحاولة في التحليل الأخير لطف كبير من الله من أجل تطهير القوات
المسلحة من العناصر التي من المفترض أن تكون خالية ونقية منها أصلاً.” كما يدل قوله
في ذات التصريح: “واتخاذُ مثل هذه الخطوة قبيل عقد مجلس الشورى العسكري مطلع شهر أغسطس/
آب المقبل (2016) له دلالته؛ فالبعض توقعوا ما سيحدث في هذا الاجتماع، فبادروا إلى
الإقدام على مثل هذه الخطوة”، على أنه كان يخاف من قيام الجيش بفتح “ملفَّات شائكة”
كدعم داعش والعمال الكردستاني وتوظيفهما في ذلك الاجتماع، مع إبراز الأدلة والوثائق،
ولذلك كان يبحث عن “ذريعة” قبل انعقاد هذا الاجتماع ليقوم بحركة استباقية وينقذ نفسه
من الضغوطات العسكرية المحتملة.
أما دعوة أردوغان
أنصاره للنزول إلى الشوارع بدلا من القوات الأمنية ليلة الانقلاب، وتوزيع أسلحة عليهم
واستخدامها ضد الطلبة العسكريين العُزل، وقصف مقر البرلمان فقد شكلت الصورة التي يريدها
من أجل إضفاء صبغة حقيقية على روايته الرسمية للأحداث، كما فعل من قبله هتلر الذي أحرق
البرلمان الألماني لإطلاق حركة تصفية شاملة ضد معارضيه. ومن ثم فقد شرع أردوغان في
صبيحة تلك الليلة في تصفية غير مسبوقة في صفوف الجيش ومجلس القضاء الأعلى وكبار البيروقراطيين
وفق قوائم التصنيفات التي أعدها حليفه أرجنكون والتي تتكون في الأساس من الجنرالات
والضباط الموالين للناتو، باعتراف هذا الأخير، ثم فصل واعتقال عدد كبير من العسكريين
الذين تصدوا للانقلاب، ومنهم القائمون على حماية طائرة أردوغان شخصيًّا أثناء انتقالها
من مدينة موغلا إلى إسطنبول، كما توسعت حملات تصفية المدنيين دون تمييز بين الرجال
والنساء والأطفال، حتى الذين كانوا خارج تركيا زمن الانقلاب. كما انتهز أردوغان هذه
الفرصة وأمر بإغلاق مئات من المؤسسات التعليمية والإعلامية ومصادرة ممتلكات أكثر من
ألفي شركة وفصل مئات الآلاف من وظائفهم. بالإضافة إلى التعذيب الممنهج داخل السجون
والمعتقلات لانتزاع اعترافات من المعتقلين تستخدم لمزيد من الاعتقالات ولإضفاء الشكل
القانوني على المحاكمات الصورية.
وتحمل كل هذه الإجراءات
والممارسات دلالات صريحة على تدبير أردوغان لهذه المحاولة الانقلابية الفاشلة 15في
يوليو / تموز 2016 مع حليفيه أرجنكون والإسلاميين ليتمكن بعدها من إطلاق انقلاب مضاد
حقيقي يعيد من خلاله هيكلة المؤسسة العسكرية والسلك البيروقراطي والحياة المدنية. وليس
أدل على ذلك إلا اتخاذ أردوغان قرارًا بالتدخل العسكري في سوريا عقب وقوع الانقلاب
وإجراء التصفيات اللازمة في الجيش في ظل رئيس الأركان عينه الذي أعلن قبل 5 أشهر فقط
أن الجيش لن يتدخل عسكريا في سوريا ما لم يكن هناك قرار أممي(73)
رغم الكم الهائل
من التضليل والتشويه الإعلامي في حق الخدمة وتسليط شتى أجهزة الدولة عليها فإنها التزمت
بالأطر والأعراف القانونية ولم تحاول الخروج عنها
13ـ الخدمة ذريعة
أردوغان الجاهزة
كان أردوغان في
حاجة إلى كبش فداء يحمله فاتورة هذا الانقلاب ويصفي من خلاله كل معارضيه ويقود حملة
ممنهجة لهيكلة الجيش وعزل كل من كان يقف عائقًا أمام طموحاته، فوقع اختياره على الفور
وقبل أن تتكشف ملابسات الأحداث على حركة الخدمة، وهي التي استخدمها من قبل عبر إطلاق
ذريعة “الكيان الموازي” للتغطية على فضائح الفساد والرشوة التي تورط فيها عام 2013،
ونجح من خلال هذه الذريعة في هيكلة كل الأجهزة على مقاسه، وإنقاذ نفسه من المحاكمات،
والحصول على حصانة قانونية، وتوسيع نطاق صلاحياته وامتيازاته. وهذا بالفعل ما أكده
اعتراف أحد رجال أردوغان في تسجيل صوتي تم تسريبه.
ويرجع اختياره
لحركة الخدمة دون سواها لأنها كانت الوحيدة التي يمكن تحميلها هذا الحجم من الاتهامات
كـ”الانقلاب” و”السيطرة على العالم” و”العمل لصالح القوى العالمية”، نظرا لأنها حاضرة
بقوة ليس في تركيا فقط بل في جميع أرجاء العالم من خلال مؤسساتها.
كذلك فإن توجيه
الاتهام في هذا الوقت لحركة الخدمة بات ميسورًا لأنه تم الاشتغال عليه طيلة ثلاث سنوات
مضت قام خلالها بتشويه سمعة الخدمة وتحويلها إلى هدف وتوجيه الجماهير الغاضبة للهجوم
عليها، ثم استحداث جريمة جاهزة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي” ثم تهمة جديدة
وهي “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن…” وإلصاقها بكل من يريد تصفيته سواء كان داعمًا
للحركة أو معارضًا لها.
وكما أحدث أردوغان
“انقلابا مضادا” في اليوم التالي من بدء تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 نسف به أجهزة
الأمن والقضاء من ألفها إلى يائها، بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى الكيان الموازي”،
وأنشأ مكانها أجهزة أمن وقضاء جديدة من أنصاره وحلفائه من جماعة أرجنكون الموالية للمعسكر
الأوراسي والإسلاميين الموالين لإيران، أقدم كذلك على “انقلاب مضاد” في صبيحة ليلة
الانقلاب المدبر والمسيطر عليه ليطيح بكل القادة العسكريين وأعضاء مجلس القضاء الأعلى
المنتمين إلى تيارات مختلفة، بفضل اللافتة ذاتها، سواء شاركوا في الأحداث أم لم يشاركوا،
وسواء أكانوا منتمين إلى حركة الخدمة أو لم تكن لهم أي صلة بها، وذلك للتخلص تمامًا
من كل أولئك الذين رصدوا استعانة هذا التحالف الثلاثي بالتنظيمات الإرهابية التي تطرقنا
إليها سالفًا والشروع في تنفيذ مشاريعهم المحلية والإقليمية بالكوادر الجديدة الموالية
للمعسكر الأوراسي.
14ـ تصفية 30 ألف
جنرال/وضابط أطلسي
لعل التصريحات
الصادمة التي أدلى بها زعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك” المحكوم عليه سابقًا في قضية
أرجنكون في اجتماع عقده مع كبار المسئولين الإيرانيين بطهران حول التصفيات الشاملة
في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى تكشف الصورة الكاملة لهذا الانقلاب المدبر؛ إذ أعلن
أنهم مَنْ أعدوا قوائم الأسماء التي تمت تصفيتها وأنهم استطاعوا تصفية “30 ألف جنرال/وعسكري
كانوا موالين للناتو” بعد الانقلاب الفاشل(74). بمعنى أن برينتشاك أعلن من “إيران”
أنهم قاموا بتصفية الجنرالات والضباط الأتراك الموالين للناتو بعد هذا الانقلاب المدبر
بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” الجاهزة من جانب، ويفتخرون من
جانب آخر بأنهم عينوا مكانهم الجنرالات والضباط الموالين للمعسكر الأوراسي(75) ممن
كانوا حوكموا سابقًا في قضية أرجنكون بتهمة التجسس العسكري وتسريب وبيع “الوثائق السرية
للأمن والجيش التركي، إلى ستّ دول بينها إسرائيل واليونان”(76).
وفي هذا السياق،
تجدر الإشارة إلى أن “محمد أيمور”، رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات التركي
سابقًا قد وصف برينتشاك بـ(fabricator) أي المفبرِك، وتعني “المحترف في اختلاق أحداثٍ
من أجل إثارة البلبلة والفوضى في البلاد”؛ في حين يتهمه “هرم عباس”، نائب رئيس المخابرات
الأسبق بـ”العمالة لدولة أجنبية”، ويشرح مهمته في كتاب له بعنوان “التحليل” (Analiz) بقوله: “تنفيذ عمليات التصفية باستخدام طرقٍ
وأساليبَ شتى ضد العناصر المستهدَفة التي تشكّل عائقًا أمام تحقُّق مصالح الدولة الأجنبية
التي يعمل لصالحها، والسعي للحيلولة دون تطورِ وتقدُّم تركيا، ومنعها من اتباع سياسة
وطنية مستقلة بعيداً عن مصالح تلك الدولة الأجنبية، وذلك من خلال تنظيم أنشطةٍ وفعاليات
تقود البلاد إلى حالة عدم الاستقرار المتواصلة”(77).
أظهرت التسجيلات
الصوتية لجنرالات أرجنكون المسجونين أن أردوغان وعدهم عام 2012 بإخراجهم من السجن شريطة
تحالفهم معه في الفترة الجديدة. 1ـ مفهوم الانقلاب
الذاتي
كل الحقائق التي
أوردناها في سياق هذا التحليل المدعوم بمعلومات وافرة تقودنا بالضرورة إلى ما وصفه
الكاتب “بروس. و. فاركا” بـ”الانقلاب الذاتي” (Self- coup) إذ يعرفه بقوله: ” مصطلح الانقلاب الذاتي يُطلق
على انقلاب يقوده الجالس على قمة هرم السلطة في أي بلد ضد نفسه من أجل توسيع صلاحياته
بصورة مخالفة للدستور المعمول به”.
ويلخص الكاتب
“باول بروكر” مهمة الجيش في أثناء هذا النوع من الانقلاب قائلاً: “يتظاهر الجيش وكأنه
يستولي على السلطة في البلاد حين يقدم دعمه لزعيم يسعى إلى بناء نظام رئاسي شعبوي في
نهاية المطاف من خلال تدبير انقلاب ضد نفسه. لكن ما يفعله الجيش في الواقع هو أنه يصبح
شريكًا في الجريمة مع هذا الزعيم الذي يسيء استخدام منصبه وسلطته قبل اندلاع الأحداث
وبعدها”. ونرى تفصيل ذلك عند الكاتب “كارلسون أنيانغو” حيث يقول: “في مثل هذه الظروف
التي يحاول فيها الزعيم الأعلى حبك انقلاب ضد شخصه، تحصل السلطة الحاكمة على صلاحيات
فوق الدستور، فتغيّر شكل النظام المطبق تمامًا، وتقود البلاد إلى نظام جديد مختلف كاملاً،
وذلك بدعم سري أو علني، وأعمال تحريضية يقوم بها الجيش. لكن ما يحدث في الأصل هو إسقاط
السلطة الحاكمة للنظام الدستوري القائم وإحلالها نظامًا دستوريًّا جديدًا. ويُطلق على
هذا الوضع مصطلح “الانقلاب الذاتي أحيانًا”.
ومن ثم يلفت كارلسون
أنيانغو الانتباه إلى نقطة مهمة إذ يقول: “في نهاية كل انقلاب ذاتي تظهر تلك النزعة
التالية: كل الانقلابات الذاتية تحمل في طياتها بذور انقلاب جديد مضاد أو تمرد موسّع،
يطيح في نهاية المطاف بالشخص الذي نظَّم هذا الانقلاب الذاتيّ، ويعيد تأسيس النظام
الدستوري السابق”.
2ـ أردوغان يفشل
في إقناع العالم
رغم توظيف أردوغان
كل إمكانيات الدولة في سبيل الدعاية السوداء ضد حركة الخدمة، وتكريس وسائل الإعلام
التي بات يسيطر على 80 % منها أو أزيد لإقناع العالم بإرهابية الحركة ووقوفها وراء
الانقلاب فإنه فشل في ذلك ولم يقتنع بروايته عن قصة الانقلاب حتى كثير من الكتاب الموالين
له وشريحة كبيرة من أنصاره.
كما أن انفتاح
الحركة بمؤسساتها التعليمية على جمهوريات وسط آسيا، ونجاحات الطلبة الدارسين فيها في
المسابقات العلمية العالمية وحسن سلوكهم وأخلاقهم حال دون نجاح تلك الدعاية السوداء
ومحاولات القضاء عليها في أثناء انقلاب أرجنكون في 1997، كذلك فإن انتشار الحركة في
أكثر من 170 دولة حول العالم في الوقت الراهن، ونزاهة سيرتها الممتدة لأكثر من قرن،
أحبط خطة أردوغان أيضًا، رغم استيلاء أردوغان على كل مؤسساتها الإعلامية قبل الانقلاب؛
إذ أصدرت كبرى الاستخبارات العالمية التي تراقب منذ عقود حركات وسكنات الخدمة تقارير
برأت ساحة الخدمة ووجهت أصابع الاتهام إلى أردوغان. ذلك لأن الخدمة على الرغم من تعرضها
لهذا الكمّ الهائل من عمليات الفصل والاعتقال والتعذيب وحتى القتل بصورة مباشرة وغير
مباشرة، فإنها لم تخرج عن الإطار القانوني ولم تنزل إلى الشوارع ولم توجه حتى صفعة
لأي أحد، بل كل ما فعلته هو القيام بتسليط الأضواء على حقيقة الأمور عبر ما بقي من
وسائل إعلامها من جهة، واستخدامِ الوسائل القضائية للدفاع عن نفسها من جهة أخرى، تمامًا
مثلما كانت تفعل في أثناء انقلاب 1997.
وكما أن التقارير
الاستخباراتية الدولية الحالية تبرئ ساحة الخدمة من تهمة الانقلاب الفاشل وتكشف يد
أردوغان فيه، كذلك فلا شك أن القضاء التركي سيصدر حكم البراءة لها فور تحرره من القبضة
الحديدية لأردوغان وسيكشف عن المجرمين الحقيقيين الذين دبروا ونفذوا هذه المسرحية الانقلابية.