الإثنين 6 مايو 2024

الخال «الأبنودي».. حكاية وطن

فن11-10-2020 | 20:12

عام ١٩٥٦، أعلنت مدرسة "قنا الثانوية" أنها ستقوم بتدريب الطلاب على حمل السلاح حتى يستطيعوًا الاشتراك ضد العدوان الثلاثي - بعد تأميم قناة السويس- أثناء معركة بورسعيد الباسلة. وفِي طليعة المتدربين سارع الطالب النابه "عبد الرحمن محمود الأبنودي" يؤدي بحماس وإخلاص تدريبات إطلاق النار في فناء المدرسة. انتهت فترة التدريب ونزعوًا منه السلاح وألحقوه بالدفاع المدني, فحزن عبد الرحمن بشدة وشعر بالعجز, فاندفعت مشاعره الثائرة إلى الورقة والقلم وكَتبَ قصيدة - اكتشف معها لأول مرة قدرته على نَظم الشِعر- وقال " طالما شالوًا مننا السلاح هحارب بالقصيدة ". وكان القرار - الحرب بالقصيدة- نقطة تحوُّل في حياة "الخال" كما أطلقت عليه جماهير المصريين وعُرِفَ في العالم بأسرهِ بهذا اللقب الحميمي الدافئ.  


* صعيدي " راسه ناشفة " في قاهرة الستينيات .  


لازمت الثورية الأبنودي في كل مراحل حياته, لم يهدأ باله أو تستكين عواطفه الجياشة لحظة واحدة . رفض الحياة الهادئة التي لا تناسب شخصيته المتمردة ؛ إذ قرر ترك حياته السهلة في قريته "أبنود" , واستقال من وظيفته المستقرة في محكمة قنا, ليهاجر إلى قاهرة الستينيات وهي في ذروة مجدها الأدبي والفكري معتمدًا على فنه وموهبته؛ آملًا أن يحذو حذو القامات العملاقة آنذاك . مشي في القاهرة بعناد الصعايدة ينطح في الصخر, بلا مال أو وظيفة أو معارف .


 وأول ظهور فني له كان في مجلة "صباح الخير" حيث نشر له صلاح جاهين قصيدة عن مقاومة دودة القطن، أجزاه عنها أجرًا كبيرًا ثم فوجئ بعدها أنها تغني في الإذاعة . التقط المطرب الشعبي محمد رشدي بذهنيته الحاضرة ذلك الشاعر الصعيدي, أدرك أنه قادر على إحياء فنه الذي تراجع نسبيًا أمام عبد الحليم حافظ, كتب له الخال " تحت الشجرة يا وهيبة " و"عدوية" ولحن لهما القصائد صعيدي آخر - من سوهاج- وَهُو بليغ حمدي ؛ فقدموا فلكلورا شعبيا فنيا انتشر في الوطن العربي وأوروبا وقال الأخوان رحباني "لو استمر هذا الثلاثي بهذا الشكل سنتوقف" . صار الأبنودي في وقت قصير ظاهرة جديدة براقة في سماء القاهرة المتمدنة, وأيقونة فنية ارتبطت بالتراث والهوية المصرية الجنوبية واللهجة الصعيدية التي أخذها معه من "أبنود" القناوية ولم يتركها يومًا.   


* شقاق ووفاق مع العندليب .


حققت أغاني الأبنودي مع محمد رشدي نجاحًا مدويًا أصاب عبد الحليم حافظ وقتها بالذهول, أدرك أن كلمة السر في هذا النجاح هو الكلمات الآتية من زمان ومكان آخر . طلب عبد الحليم حافظ من الأبنودي كتابة أغنية له بلهجته الصعيدية, فكتب له أغنية " أنا كل ما أقول التوبة يابوي" , وفي الحفل الذي غنى فيه العندليب الأغنية لأول مرة كان الخال موجودًا, وعندما سمع اللحن الذي غنى به عبد الحليم حافظ الأغنية غضب ووصل غضبه لحد الثورة حينما ردد عبد الحليم حافظ الكلمات باللهجة القاهرية, وقف الأبنودي تحت خشبة المسرح يصرخ يطالبه أن ينطق باللهجة الصعيدية " أجول يا حليم أجول .. مش أقول مش أقول " . وخرج حزينًا من المسرح لما اعتبره إهانة للتراث الذي كتب به الأغنية . ثم قام عبدالحليم فيما بعد ينطقها " أجول " كما أراد الخال إرضاءً له. 


زال الخلاف وامتد الود بين الفنانين الكبيرين وعاد التعاون بينهما من جديد كتب له أحلف بسماها وبترابها، ابنك يقول لك يا بطل، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب، اضرب اضرب، إنذار، بالدم، بركان الغضب، راية العرب، الفنارة، يا بلدنا لا تنامي، صباح الخير يا سينا. 


تميز الأبنودي في مضمار الأغاني الوطنية، فلم يكتفِ بوصفه شاعرًا غنائيًا, بل دفعته ثوريته الفطرية لأن يكون شاعرًا سياسيًا يشيد بإنجازات ثورة يوليو، حتى بوغت مع الشعب بنكسة حرب ١٩٦٧, وبعدها خلال مشادة بينه وبين صلاح جاهين وكمال الطويل وَعَبَد الحليم حافظ في مبنى الإذاعة المصريّة صرخ فيهم الأبنودي " بدل ما نغني للناس غنينا عليهم .. لو ما كتبناش أغنية نعترف فيها بالهزيمة الناس هتضربنا بالجزم" فكتب أغنية "عدى النهار" وغنّاها عبد الحليم حافظ بصوتٍ حزين كسير, متأثرًا بذات النبرة التي كتب بها الأبنودي الأغنية . 


* جواز عتريس من فؤادة باطل .


مضى الأبنودي على عهده صعيديًا حرًا بريئًا من التملُق ولم يتزحزح عن كونه وطنيًا منزهًا عن الهَوى, استمر في صلابته وعناده بعد النكسة بأن هناك سلبيات في عهد ناصر وهي التي أدت إلى الهزيمة, لم يقم "بالطبطبة" على الواقع مثل آخرين وإغفال خطاياه, وفِي عام ١٩٦٩، عندما طلب منه صلاح ذو الفقار منتج فيلم "شيء من الخوف" الاشتراك في العمل, المأخوذ عن رواية للأديب ثروت أباظة, كتب حوار الفيلم بشكل فيه إسقاط سياسي بارع توِّج بجملته الأشهر "جواز عتريس من فؤادة باطل" وقد استنتج الكافة أن المقصود بعتريس وعصابته هو عبدالناصر ورجاله وفؤادة هي مصر وحكم النظام باطل وغير شرعي, ولما بلغ جمال عبد الناصر حقيقة هذه الإسقاطات؛ كلف إحسان عبد القدوس بتحري المسألة وشاهدا الفيلم سويًا, وقال لإحسان عبد القدوس بعدها

 "إحنا مش عصابة عتريس يا إحسان .. والناس عمرها ما هتشوف ده .. خلي الفيلم يتعرض ", ولم تخل قسوة الأبنودي من بعض الحنية والإشفاق على العهد الذي تربى في خيره فكتب أغنية غنتها شادية في الفيلم حزنا على عتريس نفسه "يا عيني يا عيني ع الولا" . صار الفيلم بفضل الإسقاطات السياسية التي أدخلها على النص صار علامة مهمة في تاريخ السينما والفن العربي . 


* يعيش جمال حتى في موته .


علاقة الأبنودي بجمال عبد الناصر من طراز فريد, إذ رَآه لأول مرة في عام ١٩٥٤، في قريته التي تضررت من فيضان النيل, واقفًا في سيارة مكشوفة بقامته المديدة يتابع إزالة الأضرار التي لحقت بالقرية, تقدم إليه وسأله : 

- إنت جمال عبد الناصر؟


- أيوه .


- ممكن أسلم عليك؟


انحنى ناصر يسلم على الأبنودي الصبي اليافع, الذي بعد عقد من الزمان شب شاعرًا يتغنى بالثورة ويقدحها في ذات الوقت, دخل الأبنودي السجن الناصري مع زمرة من المثقفين والمفكرين, ولمّا خرج وتقابل مع الشاعر إبراهيم أبو العيون بطل الملحمة الشعرية "وجوه على الشط" وعاش معه أيامًا على شاطئ قناة السويس خلال فترة حرب الاستنزاف سأله العم إبراهيم : 


- اتحبست ليه يا عبد الرحمن؟


- يا سيدي الراجل اللي اسمه عبد الناصر..


وقبل أن يكمل جملته ثار في وجهه الشيخ الحليم بحس كالرعد المدوي أرجف الأبنودي: 


- دلوقت اتعلمت ولبست قميص وبنطلون وبقيت تقول الراجل اللي اسمه عبد الناصر حاف كده يا بجاحتك .. لولاه ما كنت اتعلمت ولا لبست قميص وبنطلون ولا بقيت عبد الرحمن الأبنودي.  

بعد هذه الواقعة بسنوات تحدث الأبنودي عن عبد الناصر"الرحلة التي قطعتها إنسانيًا وفنيًا هي رحلة مع الوعي أولا وقبل كل شيء, رحلة كنت أنضج فيها شيئًا فشيئًا عبر مراحلها وربما كشفت الأيام عن أن ما كنت أراه عيبًا أيام عبد الناصر هو في حقيقة الأمر ميزة كما أكدت الفترات السياسية بعد ذلك ".


ترجم الأبنودي تلك الرؤية في قصيدة "يعيش جمال حتى في موته" يرثي بها عبد الناصر بعد رحيله, يقر فيها بكل ما ألحد به في عهد ناصر ويعترف فيها بخطأه في حق عبد الناصر, في إدانة لسياسة الانفتاح التي هدمت التجربة الناصرية . قال فيها " مش ناصري ولا كنت في يوم بالذات في زمانه وفي حينه .. ولكن العفن وفساد القوم نساني حتى زنازينه .. يعيش جمال عبد الناصر يعيش حتى في موته .. أهو مات فعاش عبد الناصر" . 


* ساعات ساعات وعودة الشاعر المرهف :


هكذا صبغ الأبنودي نفسه باللون السياسي بعدما تتابعت قصائده الوطنية التي تغنى بها أهم مطربي العصر : حليم, وشادية, وفايزة أحمد, ونجاة الصغيرة . ولكنه عاد من جديد مرهفا حساسا شاعرا في أغنية "ساعات ساعات"، الأغنية التي غنتها صباح ولحنّها جمال سلامة لتصير من أشهر أغانيها ودرة تاج فيلم "ليلة بكي فيها القمر", وقد أعادت الأغنية لصباح نجوميتها من جديد . وبسببها أيضًا عشق الشعب اللبناني الأبنودي فلا يمشي في أي مكان إلا ولاحقه الناس بسبب حبهم لأغنية ساعات .   


* السيرة الهلالية :


فتحت القاهرة للأبنودي ذراعيها, وصار في ذروة المجد والشهرة والثروة، ورغم النجومية التي حققها ظل يرتحل إلى القرى والنجوع النائية في الصعيد؛ ليجمع أشعار السيرة الهلالية التي خاف علىها من الإنقراض والضياع, وقد أنفق في سبيل تلك المهمة التاريخية ثلاثين عامًا من عمره, جمع فيها مع رفيقه حامل الربابة "جابر أبوحسين" الأشعار ووثقها الأبنودي في دواوين شعرية . عاش الأبنودي حياته مثالًا للأصالة والهوية المصرية الخالصة، غيورًا على جذوره الصعيدية ومفتخرا "برأسه الناشفة" ولهجته القناوية . وآخر جملة قالها " مش عايز الناس تنساني" . ليرحل عنا "الخال" بعدما سطر بكلماته حدوتة الوطن، بإبداع وإحساس لا مثيل له . في مثل هذا الشهر عام ٢٠١٥، توفي تاركًا خلفه تراثًا وفنًا لا يمكن نسيانه .


    Dr.Randa
    Egypt Air