الخميس 28 نوفمبر 2024

فن

د. مراد حسن عباس يكتب: شعراء سكندريون (2)

  • 8-11-2020 | 14:41

طباعة

دون كيخوتي.. قراءة في ديوان "المشاوير للبحر" للشاعر أحمد فراج 


"أن تحارب طواحين الهواء".. كان "كيخوتي" - تلك الشخصية التي رسمها الأديب الإسباني الكبير ثربانتس باقتدار- نموذجًا من البشر الذين يختلف واقعهم عن واقع من حولهم؛ هؤلاء الذين يدينون بالحب للبشرية؛ ويؤمنون بالتضحية والوفاء؛ وقد بنوا عالمهم من كتب في الخيال؛ وأخذ هذا الخيال يزاحم واقعهم؛ حتى أصبح الخيال واقعًا؛ وفي مشهد ثري يقدم ثربانتس كيخوته وقد وقع في أيدي بعض المستهزئين الذين أرادوا أن يعبثوا بأوهامه؛ فأخبروه أن البنسيون الحقير الذي يسكنون فيه هو قصر الحكم؛ وأن عليه أن يقف في خارجه ليحرسهم من الأعداء؛ ويقف كيخوتي في الليل البارد لحراسة هؤلاء الأوغاد؛ وحين تدور الطواحين في المساء بفعل الرياح يحاربها؛ لينتهي في الصباح ليخبر هؤلاء الأوغاد أنه قد دافع عنهم؛ وفي نهاية هذه القصة المؤلمة؛ يحاول "سانشوبانثا" أن يخبره بالحقيقة كاملة؛ "أنت لست فارسا؛ زمن الفرسان قد ولى؛ وإسبانيا لم تعد تحارب أحدا الآن؛ والمرأة التي أحببتها ليست ملكة؛ إنها مجرد فلاحة فقيرة"؛ أما كيخوتي فلم يستطع قلبه أن يتحمل كل هذه الحقيقة؛ وفي اللحظة الأخيرة يقول له "سانشوبانثا" إن الإنسانية تحتاج إلى الأنقياء من أمثالك كي تكون أفضل.


من هنا نستطيع أن نقرأ "المشاوير للبحر"

"من فراغ على مشرق الحب

صوب فراغ على مغرب المستحيل

أتشبث باللحظات الأخيرة

بالومضات الأخيرة

يقتلع الحزن عيني على العتبات

ويزجي على الأغنيات قتاما ثقيل

ثم ينزل سيلا من الوشم مختزنا بالغثاء

على صفحات الزمان الجميل"

هكذا تبدأ القصيدة المأساة؛ أو كما يقول سفوكليس "إن ما يحيط بالإنسان أقوى من الإنسان"؛ وتكمن المأساة في خصيصة مركبة في البطل؛ تعارضها قوى الطبيعة التي تحيط به؛ هكذا يأتي الشاعر مشرقًا بالحب؛ ليكتشف أن المآل إلى مغرب المستحيل؛ وفي النقطة الفاصلة بين معطيات الشاعر ومآلاته؛ يتشبث باللحظات الأخيرة؛ في زمن لم يعد للفروسية وجود؛ وفي زمن أصبح كل شخص يبيع كل شيء؛ وفي زمن تنزوي فيه الصقور تاركة أماكنها لبغاث الطير؛ هكذا يتشبث الشاعر بزمن غير زمانه زمن منسوج من الوهم يدعوه "الزمان الجميل".

هكذا تؤول كل الأشياء إلى نقائضها.

"آه ...

من سيج السحب بالسم

والريح بالسقم

من صاغ وجهي لقاح الصواعق

من صب من فوق رأسي الحميم"

ثم يبدأ الشاعر في رسم صورة متكاملة لنفسه عبر العبارة المتكررة "أنا عاشق" التي يبدأ بها كل مقطع في القصيدة أو بالأحرى كل درجة من درجات الانفصال عن الواقع الأليم.

" أنا عاشق

ضيعته المشاوير للبحر

ضيعه الرقص عند التوجس في جسد النهر

ضيعه القفز حول الورود

وضيعه الانصياع لأمر النخيل

...... وأنا عاشق

تستحم الهموم بأسماء أحبابه

تتعلق شوكا بأثوابه

تتكشف صهدا على بابه 

يتعذب ضوء النهار وضوء المساء على دربه

عاشق"

إن "المشاوير للبحر" لا تستدعي المثل العامي القائل "افعل الخير وألق به في البحر" فقط _لأننا قد نعجب من استخدام شاعر الفصحى المتمسك بها لهذا اللفظ العامي "المشاوير" إلى درجة أن يكون هذا اللفظ عنوانا لديوانه_ أقول إن هذا العنوان لا يستدعي المثل العامي بل يستدعي تجربة كاملة من نقاء شاعر؛ أعطى حياته للبحر؛ وكان مثله في عطائه الدائم؛ وحبه للخير؛ ولكنه لم يكن قادرًا على التعايش في زمن لم يجد فيه هذا المثال من النقاء المتمثل في "فاطمة" أخته التي اختارها الله؛ ولابد أن موتها المفاجيء هز كيانه هزًا عنيفًا.

حين يشعر الإنسان بالعجز عن الدفاع عن حبه لأقرب من له؛ فإما أن يتخلى عن أحلامه؛ ويعرف أن ما يحيط بالإنسان أقوى من الإنسان؛ وأن هذه المقولة الصغيرة أبدية الحضور؛ ولا حد لقوتها؛ وإما أن يبني له عالمًا من خيال وحب ويدافع عن خيمة الحب في آخر الصحراء

"عاشق ..

صورته البحيرات للعدم المستقيم على أفق منكسر

هربته العصافير ذات مساء

إلى بلدة من دم وقمر

لينام على وتر من بكاء 

ويدافع عن خيمة الحب في آخر الصحراء" 

ثم يتخذ الشاعر طريقة الخطيب الذي يخاطب الناس في موقفه منهم؛ ومن الوجود

"يا أيها الناس

إني ولدت على نجمة من عطاء وصمت

وتجلدت أزمنة في ضباب كثيف وغيب ومقت

فتوزعت في وجع من غواش

فلا حربنا حربكم .. ؛ لا

ولا سلمنا سلمكم"

يا صديقي أيها الشاعر الكبير أحمد فراج نم في سلام؛ إن خيمة الحب التي كنت تدافع عنها هي التي تبقى ذكراك الجميلة؛ إن الحياة تحتاج إلى أمثالك كي تكون أفضل. 


د. مراد حسن عباس

 رئيس قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، أستاذ كرسي جامعة نانكاي، الصين.

    الاكثر قراءة