تنشر بوابة "الهلال اليوم"، فصلا جديدًا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"، للكاتب الصحفي محمد الباز، الذي جاء تحت عنوان "رفيق طريق.. سر توفيق الحكيم... وسرى".
رفيق طريق.. سر توفيق الحكيم... وسرى
كان توفيق الحكيم زميلى فى أخبار اليوم، عندما ذهبت أنا كان هو سينضم إليها.
هذا الكلام جرى فيما بين عامى 1946 و1947.
كان توفيق الحكيم موجودا معنا فى أخبار اليوم، وكان كاتبا ومفكرا كبيرا ودمه خفيف، كانت بيننا علاقة غريبة، كان هو مبهورا بى من ناحية، وأنا كنت مبهورا به من ناحية أخرى.
أنا كنت مبهورا بالأديب والفنان... وهو كان مبهورا بالصحفى.
كان مصدر اعجابه بى أننى أتحدث وأعمل وأذهب إلى أكثر من مكان.
كان دائما يقول لى الفارق بينى وبينك هو الفارق بين النملة والنحلة.
النمل يحفر تحته... والنحل يطير ويحلق فى الأجواء.
كان قد قرأ لى بعض التحقيقات من تحقيقاتى الأولى، وكان مهتما بها، عندما سافرت إلى الحرب الأهلية فى اليونان وغطيت ثورة مصدق والانقلابات السورية وحرب فلسطين وما جرى فى كوريا، وتحقيقات الكوليرا فى صعيد مصر.
توفيق الحكيم كان يرى ما أقوم به من الأمور التى توشك أن تفوق الخيال، أنا أتحرك كل يوم وهو يميل إلى السكون وعدم الحركة والتأمل.
كنت أقضى حياتى كلها فى أخبار اليوم، ولكن توفيق الحكيم كان يحضر فى بعض الأيام فقط، وفى هذه الأيام التى كان يحضر فيها، كنا نخرج فى كل يوم من أجل الغداء فى مطاعم وسط القاهرة معا، ونذهب إلى السينما حفلة من 3 إلى 6 ثم أعود مرة أخرى إلى أخبار اليوم وهو يذهب إلى منزله.
توفيق الحكيم وضع قاعدة جيدة فى العزومات، فى يوم أتحمل أنا تذاكر السينما، وهو فى نفس اليوم يتحمل الغداء، وفى يوم آخر يكون على الغداء ويكون عليه تذاكر السينما وهكذا.
لكن لو كان عليه الغداء، كان يعمل قاعدة ظريفة جدا.
كان يقول لى: إن كنت ستختار المحل الذى نذهب إليه، أنا الذى أختار لك الطبق الذى تأكله، وإن فضلت أنت اختيار الطبق، أنا الذى أختار المحل.
فإن قلت أريد أن آكل فيليه، يختار مطعم تركى فى حارة صغيرة متفرعة من شارع ثروت، وإن قلت أريد الذهاب إلى سميراميس يشترط أن يكون الطعام سندوتشات.
كان يحتفظ لنفسه بالفرصة الأخيرة فى التحكم فى الأمور.
كانت بيننا صداقة من النوع الجميل، ثم أننى اكتشفت فى توفيق الحكيم فى مثل هذه الظروف أمورا أكثر من جميلة، وكنت أتصور أنه يمثل على الآخرين فى بعض الأمور والأحيان.
من أكثر المرات التى تصورت أنه ربما كان يمثل فيها – على سبيل المثال – يوم أن مات نجيب الريحانى، يبدو أن على أمين قال لتوفيق الحكيم إن الريحانى مات، وتوفيق كان زعلان جدا، وأنا وصلت إلى الجريدة ولم أكن أعرف أن على أمين قال للحكيم هذا الخبر، دخلت حجرة الحكيم وكان لحظة دخولى يبحث عن كتاب فى دولاب، كان جالسا على ركبتيه يبحث عن الكتاب، كان مقرفصا.
قلت له: عرفت... نجيب الريحانى مات؟
قال لى: يا نهار أسود... مات تانى.
وضحكنا على كلمة تانى.
(2)
مرة واحدة اختلفنا كنا يوم جمعة، وكنا فى أخبار اليوم، وكنت مسئولا عن الجرنان.
وفى الصحافة قد يكون المسئول عن صحيفة فى موقف صعب عندما يواجه مسألة مهمة، وهى ايجاد صورة الصفحة الأولى، تلك من مفردات العمل الصحفى اليومية المهمة.
إنها صورة الأسبوع التى تنشر فى الصفحة الأولى على الناحية الشمال من جريدة أخبار اليوم، كانت الصورة زمان مسألة أكثر من مهمة، كنا نبدأ من أول الأسبوع نسأل: ما هى صورة الأسبوع التى ستحتل هذا المكان المهم من الصفحة الأولى؟
كان خليل مطران قد مات، ويومها اقترحت أن تكون الصورة الأولى صورة الأسبوع صورة لوجه خليل مطران وحوله الزهور وهو فى الكنيسة، وكان توفيق الحكيم معنا فى هذا الإقتراح.
كان حاضرا الاجتماع الذى تقرر فيه هذا، وكان موافقا على الاقتراح ومتحمسا له، وأنا قلت إن هذا يذكرنى بصورة شاعر البنغال الكبير طاغور بعد وفاته، وجه الشاعر والورد حوله ونظرة وداع أخيرة عليه.
قلت لمحمد يوسف إنه يمكنه أن يصور خليل مطران فى بيته قبل نقل الجثمان من البيت إلى الكنيسة، وأنه يمكنه أن يأخذ معه الورد بصورة احتياطية، اتجه محمد يوسف إلى بيت خليل مطران ومن هناك اتصل بى تليفونيا، وقال لى إن الجثمان نقل إلى الكنيسة فى النعش الخشبى وإنه لا يستطيع أن يتصرف.
قابلته عند الكنيسة فى الفجالة، كانت هناك صلاة، وفى اليوم التالى كان من المفروض أن يقام القداس، كان خليل مطران فى التابوت، وكان التابوت فى داخل الكنيسة، كان هناك رجل اسمه فرج يعمل فى الكنيسة.
سألته عن التابوت، فقد كنت أعرفه.
قال لى إنهم أغلقوا التابوت ووضعوا المسامير.
كان معنا الورد، دخلنا الكنيسة وفك فرج مسامير الصندوق، ورفع غطاء التابوت عن وجه خليل مطران، ووضع الورد حول وجهه.
شعرت برعشة من رهبة الموقف، وشعرت بتنميل فى أطرافى، وصعد محمد يوسف والتقط الصورة، وأعاد فرج مسمرة غطاء التابوت مرة أخرى كما كان من قبل.
كان ما فى خاطرى يومها هو تكريم الشاعر بصورة وداع تبقى فى ذاكرة الناس.
عدت يومها إلى أخبار اليوم، وكاد على أمين أن يطير فى الجو من الصورة التى كانت أكثر من مذهلة، ولكن كان قد عرف وشاع كيف التقطت الصورة، وأصبحت مشكلة داخل الجريدة.
فى اليوم التالى دخل توفيق الحكيم على فى مكتبى.
قال لى: إيه الحكاية اللى حصلت دى؟
سألته: حكايه إيه؟
قال لى: إنتو فتحتوا البتاع؟
فهمت قصده، وقلت له محمد يوسف كان يريد التقاط صورة لوجه الشاعر بين الورود لأنه كان قد أغلق.
سألنى: وفكيته ليه؟
قلت له: لأننا كنا نريد أن تكون تلك آخر صورة.
أكملت: ثم إن هذا تكريم له، أن يتم تصويره بين الورود وأن ننشر الصورة فى هذا المكان بالذات.
قال لى بصوت عال واندفاع: لا. لا . لا. لأه. هو ايه ده؟
دخلنا فى مناقشة، وكان موقفه الذى لم يتزحزح عنه، أن مثل هذا الكلام لا يقدر عليه إنسان.
(3)
كان بشارة تقلا أكبر ملاك الأهرام يتمنى أن يكون توفيق الحكيم فى الأهرام، وكان يعرف أن عندى صلة خاصة معه، وكان الحكيم قد بدأ يبتعد عن أخبار اليوم، وجاءنى بشارة تقلا يطلب منى أن أكلمه فى هذه الظروف عن فكرة المجئ إلى الأهرام، لكن توفيق وفر على الجهد، فقد جائنى ذات يوم مبديا اهتمامه بما أفعله فى الأهرام، وأجبت الحكيم أنه ينتظره عرض فى الأهرام، وقدمت له العرض بسرعة.
قلت له: لماذا لا تأتى معنا فى الأهرام؟
العرض كان الأول من نوعه فى الصحافة المصرية، أن يحصل على مرتبه لمجرد أن يحضر إلى الأهرام ويجلس فى مكتبه، فإن كتب أى شئ يحاسب عليه بقيمة ما يكتبه.
جاءنى توفيق الحكيم إلى الأهرام بعقد يحصل بموجبه على خمسة آلاف جنيه فى السنة بخلاف أجره عما يكتبه، وعندما وصلنا إلى هذه الصيغة التى لم يطلبها الحكيم، لم يكن قادرا على تصديقى.
قال لى: يعنى حاخد ماهية كبيرة علشان باقعد فى الأهرام؟
قلت له: فعلا.
عاد ليسألنى: وأنت تستفيد إيه من الشغلانة دى؟
قلت له: كل ما أريده منك هو البقاء فى الأهرام والحضور إليه والجلوس فيه، تلتقى مع شباب جديد من الممكن أن يستمعوا إليك وأنت تتكلم، ويستفيدوا منك ويتناقشوا معك، وذلك بالدرجة الأولى التى تريدها أنت.
كان الحكيم يتصور أن وراء الأمر قصدا، وإن القصد ربما كان خفيا، كان يتصور أننى قد أستخدمه بصورة أو بأخرى، وأستثمر وجوده فى الأهرام.
سألنى توفيق الحكيم عندما عرضت عليه الانضمام للأهرام: لماذا تريدنى فى الأهرام؟
وكان متشككا باستمرار، فقلت له لا أريد منك شيئا أبدا، فسوف تحصل على راتب يساوى خمسة آلاف جنيه فى السنة – وهو نفس الراتب الذى كنت أتقاضاه فى الأهرام – وذلك لمجرد أن تتناول الغداء فى مطعم الأهرام يوميا.
سألنى: ومن سيدفع حساب الغداء؟
قلت له: الأهرام سيدفع.
فقال متعجبا: وأحصل على راتبى مقابل ذلك فقط؟
قلت له: نعم بشرط أن تجلس كل يوم مع خمسة أو ستة من شباب الأهرام تدعوهم على الغداء وتتناقش معهم لكى ينهلوا من ثقافتك.
كنت أهدف من وراء ذلك أن ننقل الثقافة للناس، لأن الثقافة مثل السياسة إذا لم تكن لصالح الجماهير فلا قيمة لها.
(4)
كان الحكيم أول أديب كبير أستعين به فى الأهرام.
ذهبت بعد ذلك إلى طه حسين فى بيته فى رامتان بشارع الهرم، وعرضت عليه الانضمام الأهرام، ولكن خلافاته مع الحكيم جعلته يعتذر.
قال لى: أنت يا سيدى لا تعرف غير صديقنا توفيق الحكيم... وأدعو الله ألا يفجعك فيه كما فجعنا فيه".
(5)
عندنا نشرنا رواية "بنك القلق" لتوفيق الحكيم فى الأهرام أثارت جدلا كبيرا.
كانت بنك القلق نقدا واضحا وصريحا لجهاز المخابرات.
جاء إلى بهذه القصة وقال لى: أنا كاتب حاجة تجريبية.
وأضاف: وهى ليست للنشر.
أخذت القصة وقرأتها واستدعيته وقلت له: توفيق مش عاوزين نلف على بعض، أنا أعتقد أن القصة مادة هائلة للنشر، وهذا ما يحتاج إليه الأهرام وتحتاج إليه البلد، وإذا كان عندك الشجاعة أن تكتب، أنا عندى الشجاعة أن أنشر.
نشرنا الرواية، اتصل بى الرئيس عبد الناصر وقال لى: ماذا كتب توفيق الحكيم؟ أنا لم أقرؤه، إنما اشتكى لى عبد الحكيم عامر بعد شكوى صلاح نصر مدير المخابرات.
طلب عبد الناصر من عبد الحكيم عامر الحضور إليه بعد الظهر، وقال له: إن هيكل حيكون موجود ونشوف الموضوع، وبالفعل اجتمعنا وتكلمنا.
كان من رأى عبد الكيم عامر أن ما نشر هو إساءة كبيرة جدا لجهاز مهم جدا فى خدمة الدولة، وأنا لم أكن أختلف على أهمية هذا الجهاز وخدماته للدولة، ولكن فى اعتقادى أن كل جهاز يجب أن يكون معرضا للنقد، فإذا كان النقد والتقييم بحجم رجل مثل توفيق الحكيم فلا ينبغى أن نحتج بشئ.
كان تعليق جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت: إذا كان توفيق الحكيم كتب " يوميات نائب فى الأرياف" فى العصر الملكى، فلا يعقل أنه لا يستطيع أن يكتب نقدا فى العصر الجمهورى.
وهنا قلت لعبد الحكيم عامر فى وجود جمال عب الناصر: هؤلاء المثقفون ليسوا عقود زينة أو حلى ذهبية، ثم قلت فيه ناس فى البلد قالوا: إن هناك تجاوزات كثيرة من جهاز المخابرات، فتوفيق الحكيم عبر عن هذه المشاعر ببنك القلق.
فى نهاية المناقشة قال جمال عبد الناصر: أنا لم أقرأ ما نشر من الرواية ولن أقرأ الآن بقية ما سيتم نشره، وكان ذلك تصريحا للأهرام بإكمال نشر القصة.
ما حدث فى " بنك القلق" وفى غيرها، كان يؤكد معنى لم ينتبه إليه كثيرون.
وهو إذا كانت صداقتى بجمال عبد الناصر كرئيس للدولة تتحول إلى رقابة على أهم عقول مصر، تبقى صدمة مدمرة.
ولكن هذه العلاقة أعتقد أنها فى أحوال كثيرة استطاعت أن تعطى مجالا كبيرا للحرية، وأنا على استعداد أن اقول بصراحة: إن هذه كانت مرحلة الخلق الوحيدة فى العقود الأخيرة.
(6)
قال لى الدكتور عبد المنعم القيسونى وزير المالية: ألا تريد أن تكتب وصفا لقبو تضع مصر فيه ما يساوى 68 مليون جنيه من الذهب؟
قلت: إيه... 68 مليون جنيه من الذهب... أين هى؟
قال: فى خزائن البنك الأهلى، وهى احتياطى الحكومة الذى لم يمس، بل الذى حاولنا أن نزيد عليه كتلا من الذهب فوق كتل.
قلت للدكتور عبد المنعم القيسونى بعد لحظات سكوت: عندى فكرة أحسن.
ما رأيك لو جعلنا توفيق الكيم أديب مصر الكبير ومفكرها الأشهر يكتب هذا الموضوع.
إن حب توفيق الحكيم للذهب وحرصه عليه أصبح أسطورة خالدة، ولا أشك أن ملايين القراء سوف يستهويهم منظر توفيق الحكيم واقفا بين ثمانية وستين مليون جنيه من الذهب.
ستكون التعبيرات على وجهه مشهدا تاريخيا، بريق عينيه، خلجات شفتيه، إشارات يديه، بل حتى حركات عصاه، ستكون قصة، ثم المقال الذى سيكتبه، لا أشك أنه سيكون قطعة فنية خالدة، وتحمس وزير المالية للفكرة، ورفعت التليفون أتصل بتوفيق الحكيم، ودار الحديث على الوجه التالى.
قلت للحكيم: ما رأيك فى 68 مليون جنيه ذهب؟
ولم يرد توفي الحكيم على الفور، وإنما قال بعد لحظة صمت: أين أنت؟
قلت ضاحكا: أنت تعلم أنى لا أشرب... وبالتالى أنا أكلمك بكامل وعيى.
قال توفيق الحكيم وأنا أتصوره يهز رأسه بسرعة: لا يا شيخ.
ثم استطرد: ماذا قلت؟
قلت: ما رأيك فى 68 مليون جنيه ذهب؟
قال ضاحكا: هل هذا كلام... اسمع صحيح صحيح من أن تتكلم؟
قلت: ليست هذه هى المشكلة... المهم أن هناك تصريحا من وزير المالية.
قال توفيق الحكيم: وهل سيصرح لى وزير المالية بأن آخذ هذه الثمانية والستين مليون جنيه من الذهب؟
قلت بسرعة: لا طبعا... ولكنه على استعداد لأن يجعلك تراها وتزورها وتقضى يوما معها... ما رأيك؟
قال بحيرة: بصراحة لا أفهم شيئا... كلمنى جد.
قلت: أنا أكلمك جد... ما رأيك لو كتبت لآخر ساعة مقالا عن تجربتك وسط 68 مليون جنيه ذهب، وسمحت لنا أن نلتقط لك مجموعة من الصور وأنت واقف وسطها؟
قال توفيق الحكيم بارتياح: يا نهار أقف وسط 68 مليون جنيه ذهب، شئ لطيف... شئ لطيف.
وفجأة استدرك توفيق الحكيم، وعلا صوته واختلجت نبراته: لطيف؟ لطيف ايه... دى مصيبة.. دى كارثة.
قلت له: لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة؟
قال: تذكرت ساعة الخروج، كيف أقضى نهارا بين 68 مليون جنيه ذهب، ثم أتركها آخر النهار وأخرج؟ هذه مؤامرة... مؤامرة على عقلى... ليطير عقلى.
وسكت توفيق الحكيم ثم قال: وإلا إيه؟
قلت ضاحكا: إيه.
(7)
جلست مع توفيق الحكيم نتحدث عن الأبوة التى جاءتنا نحن الاثنين على آخر الزمان، وسألنى توفيق الحكيم: ماذا تصنع مع ابنك؟
قلت: قد يدهشك أن هذا الشئ الذى لا يزيد عمره على شهرين اثنين يرهبنى ويثير الذعر فى قلبى.
مرة واحدة تجرأت فيها واقتربت من فراشه، وإذا هو يصرخ ويرفس بيديه ورجليه فى الهواء، ثم يهبش خديه بأظفاره، وتتحول حمرة وجهه إلى زرقة، ويرتعش لسانه داخل فمه المفتوح للصراخ، وأحسست أمامه بعجز يائس.
ماذا أصنع له، كيف أرضيه، ما سبيلى إلى إقناعه بالسكوت؟
ولم أجد فى قدرتى طاقة على شئ من هذا كله، فهربت من غرفته حائرا مستسلما، وأنا أكتفى اليوم بأن ألقى عليه نظرة من بعيد، ولا أحاول أن أقترب منه أبدا، إنه فى خيالى الآن مخلوق غريب غامض، هبط على من أحد الكواكب البعيدة خلف الفضاء، واقتحم دنياى مزودا بأسلحة لا قبل لى بمقاومتها، وليس على إلا أن أستسلم وإلا أن أركع على ركبتى أنتظر أوامر مخلوق الفضاء الغريب ورغباته والذنب ذنبى، إذا لم أفهم لغة الصراخ الآمرة المتحكمة، والتى لا يستعمل غيرها.
وقال توفيق الحكيم وهو يثبت عصاه الشهيرة على الأرض ويصنع لها من سبابته وإبهامه حلقة يدفعها إلى الدوران فيها، بينما رأسه يهتز على عادته عندما يتحفز للكلام: تلك مشكلة بسيطة، إن مخلوق الفضاء الذى تخيلته فى طفلك الوليد شئ سهل إذ ما قورن بما سوف تلقاه منه عندما يحبو مع الأيام ويصبح طفلا فى السادسة أو فى السابعة.
وزادت سرعة دوران العصا داخل الحلقة المصنوعة من إصبعى توفيق الحكيم، وكذلك زادت سرعة اهتزازت رأسه، وقال راهب الفكر الشهير: لقد أصبحت أؤمن أن الجيل القادم شئ لم يخطر بخيالنا قط.
إن العلم الحديث ومظاهر المدنية المحيطة بنا، وأبرزها الردايو والسينما تعطى لأولادنا من وسائل التفكير ما لم يكن متيسرا لجيلنا.
واستطرد توفيق الحكيم: تصور جلست مع ابنتى منذ أيام، وإذا هى تطلب منى أن أقول لها فوازير، وتذكرت الفوازير الساذجة التى كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا، واستنجدت بأول فزورة عثرت عليها فى ذاكرتى وقلتها لابنتى.
قلت لها: عدى البحر ولا اتبلش؟
قالت على الفور: الطيارة.
قلت وفى ذهنى الإجابة القديمة التاريخية عل الفزورة: لا... العجل فى بطن أمه.
قالت فى إصرار: لا... الطيارة.
وتنبهت إلى حقيقة خطيرة، إن إجابتها إجابة علمية صحيحة دقيقة، أما الإجابة المتخلفة فى ذاكرتى من أيام طفولتى فإجابة ساذجة بلهاء، لا تستطيع أن تواصل الحياة فى سنة 1956.
وخبطت ابنتى الأرض بقدمها طالبة فزورة ثانية، وحاولت أن أشاغلها لكى أهرب، لست كفؤا لهذه الشيطانة بنت السنوات الخمس.
ومضى توفيق الحكيم: وجاءنى ابنى اسماعيل الذى لا يزيد عمره على سبع سنوات، جاءنى خلال الصيف ونحن فى الأسكندرية يقول لى إنه يريد أن يصطاد السمك من البحر.
وأقنعت نفسى على أى حال أن الدنيا تغيرت، وذهبت فاشتريت لإسماعيل عصا من الغاب وسنارة مدلاة منها، وذهبت أصور لخيالى فرحته عندما أسلمه أدوات الصيد التى جئته بها، وأمسك ابنى قطعة الغاب والسنارة ثم ألقاهما على الأرض باحتقار، ونظر إلى قائلا: إيه ده.
قلت له فى دهشة: إيه... سنارة صيد سمك.
قال: اخص.
قلت: على ايه؟
قال: هذه لا تصلح لشئ، أنا أريد كمامة أضعها على وجهى وأغطس بها تحت الماء، وأريد حربة أطارد بها السمك فى القاع، وأريد زعانف من المطاط أركبها فى قدمى لكى تساعدنى على الغوص.
قلت فى ذهول: يا نهار أسود.
قال ببساطة: هذا هو الصيد أما السنارة فلعب عيال.
وسكت توفيق الحكيم ثم استطرد بعد قليل: جيل عجيب، إنه يواجهنا بأسلحة لا تخطر على بالنا، إنه يواجهنا بالإندفاع وبالعلم وبالمنطق.
ومضى توفيق الحكيم : أقول لك قصة أخرى وقعت أمس، عدت إلى البيت أرتجف من البرد والمطر، وإذا إسماعيل يقول لى إنه يريد أن يذهب إلى السينما، وقلت له على الفور: سينما إيه... الدنيا برد ومطر.
لم يغضب ولم يبك ولم يضرب الأرض بقدميه كما كنا نفعل بخيبتنا أيام زمان.
سألنى: إذا ذهبت إلى السينما فكيف أذهب؟
قلت: بالسيارة.
قال: عال والسينما التى سأذهب إليها هل هى سينما شتوى مقفولة أم سينما صيفى مفتوحة؟
قلت: شتوية مقفولة؟
قال: عال... ماذا إذن إن كان هناك برد ومطر وسوف أركب سيارة مقفولة وستكون السينما شتوى مقفولة؟
قلت له وأنا أضع يدى على خدى: مضبوط.
قال بكبرياء المنتصر وثقته: مضبوط إيه... هل أذهب إلى السينما إذن؟
قلت باستسلام المهزوم: تفضل.
وسكت توفيق الحكيم وإن ظلت عصاه تدور كالنحلة، وسكت أنا أيضا ؟
تركت توفيق الحكيم وأسرعت إلى أقرب مكتبة أبحث عن كتاب أستعين به على مواجهة مخلوق الفضاء الغريب الذى هبط على دنياى، والذى سيبدأ غدا يواجهنى بأفكار عصر متقدم متحرك يسبق الجيل الذى أنتمى إليه بمساحات شاسعة.
اخترت كتابا اسمه" حقوق الطفل" كتبته السيدة زكية عزيز التى تخرجت فى كلية بدفور للمعلمات بإنجلترا.
وأقنعت نفسى وقتها أننى استعد لليوم الذى يستعمل فيه مخلوق الفضاء الغريب عقله ليواجهنى بدلا من حنجرته، إننى أحتمل أن أعجز عن فهمه وهو يصرخ فى وجهى، ولكنى لا أحتمل أن أعجز عن فهمه وهو يناقشنى فكرة بفكرة.
(6)
اتصل بى أنور السادات وقال لى: توفيق الحكيم الذى تدافع عنه ألا تعرف أنه كتب كتابا ضد عبد الناصر؟
قلت له: لا أعرف، ثم تساءلت: هل هذا معقول؟
قال لى: سأرسل الكتاب لك، أنا عندى فصلين من الكتاب أبعتهم لك، المباحث بعتت لى الفصلين من الكتاب حابعتهم لك.
قبل أن يصلنى الفصلان، فاتحت توفيق الحكيم فى الأمر.
سألته: هل كتبت كتابا ضد جمال عبد الناصر؟
وكنا ف مبنى الأهرام الجديد، فقال لى: لا، وهل يمكن أن أفعل ذلك؟
ثم وصلنى الفصلان وقرأتهما، وقتها عندما كنت أريد توفيق الحكيم فى أمر ما، كنت أصعد إليه فى الدور السادس، ولكن لأن الموضوع حساس طلبته إلى مكتبى، ولم أصعد إليه، كلمته فى التليفون.
سألته: هل يمكنك المجئ إلى قليلا فى مكتبى؟
فى اللقاء كان غضبى من الحكيم قد وصل إلى مدى من الصعب وصفه، وقد تكون المرة الوحيدة التى " احتديت" عليه فيها وبدون أى قصد، واجهته بالورق الذى كان معى، وكان عبارة عن الفصلين اللذين وصلانى من كتابه، الذى لم يكن أحد يعرف عنه أى شئ سوى فى بعض الدوائر الضيقة جدا.
سألته: هذا الورق أنت الذى كتبته؟ هذا الورق لك أنت؟
قال لى: ياه... أصل أنا كنت باعمل حاجة تجريبية ليست للنشر، وأعطيتها لبعض الأصدقاء فى أضيق الحدود الممكنة لقراءتها، لكنها لا تخرج عن التجريب، الذى يتم فى حدود فنية ولا يتعداها أبدا.
كان قد لفت نظرى فى الفصلين أمر مكتوب فيهما، رأى شخصى لى قلته للحكيم ذات مرة، وكان الدليل على أنه كاتب الفصول، فإذا بالأمر موجود فى الفصلين، عبارة عن واقعة خاصة كنت قد قلتها له ولم أكن قد كتبتها، وهى لم تكتب سوى بعد هذا، وهى أن تكاليف الحرب كانت تكفى لإنارة أربعة آلاف قرية.
عاد يقول لى إنها عملية تجريبية من أجل أن يقرأها عدد محدود جدا من الأصدقاء.
قلت له: أنت أحرجتنى أكثر من مرة، وسألتك فى البداية إن كان هناك كتاب كتبته ضد جمال عبد الناصر، قلت لى: لا، وأنكرت هذا.
طلبت أنور السادات وقلت له: كلام المباحث خطأ ووضعتنى فى وضع وصل إلى أن السادات أرسل لى فصلين من الكتاب وحتى بعد ذلك قلت لى إن معلومات المباحث خطأ.
قلت له وكان صامتا طول الوقت: لا أريد أن أتخانق معك ولكنى حقيقة زعلان وغاضب.
(9)
تركت الأهرام ونشر توفيق الحكيم " عودة الوعى".
ووجدتنى أوجه له رسالة نشرتها مجلة الصياد فى بيروت وكان عنوانها": الشجاعة الحقيقية".
قلت له فى هذه الرسالة:" كل من كتب، وكل من تكلم، كان موجودا أيام عبد الناصر، ويشهد عليهم جميعا، وأبسط شئ يمكن أن يقال لهم هو أنهم كانوا أشباحا خائفة، أشباحا ضعيفة، من يملك الشجاعة لا ينتظر الموت ليمارس شجاعته، الشجاعة الحقيقية هى أن يقف الإنسان أمام الحياة ويتحدى، لكن كل من لا يستطيع أن يهمس رأيه إلا بعد الوت، وحتى يتأكد أن أحدا لن يرد عليه، فليس فى موقفه هذا النوع من الشجاعة، فضلا عن أن الذين كتبوا مذكرات مع الأسف الشديد، وبالرجوع إلى مواقفهم جميعا، لم يكن هناك أسبق منهم إلى حرق البخور أمام عبد الناصر.
والغريب أن المدافعين عن الناصرية هذه الأيام هم الناس الذين كان عندهم فى وجود عبد الناصر آراء فى بعض جوانب التجربة، والذين يتكلمون عن التجربة ويجعلون من أنفسهم أبطالا هم الذين لا يملكون إلا أن يقفوا أمام الحياة فى خزى، وأمام الموت فى خزى الموقف نفسه.
وأنا لا أعتقد أن أى شئ يمكن أن يؤثر على عبد الناصر، يبقى عبد الناصر النتاج الطبيعى، والتعبير الحقيقى عن حركة القومية العربية فى القرن العشرين، وتبقى الناصرية منهاجا لتطور الأمة العربية، منهاجا قابلا للتطور، أى ليس جامدا، ولا أستطيع أن أرى مستقبلا للعالم العربى، ولكن العالم النامى دون الناصرية، مجموعة الأفكار والإنجازات والاجتهادات الناصرية التى هى أساس لأى شئ يقوم به، ربما نشر مرة عن " مصر والهزيمة" أى أن عبد الناصر هزم سنة 1967، وهذه ليست قضية، ولكن يبقى أن عبد الناصر تعبيرا عن مصر وعن العرب فى مرحلة معينة بمقدار ما هو نابليون تعبير معين عن فرنسا، طبعا هناك اختلاف، نابليون فى جزء من الحركة كان انسلاخا من الثورة، ولو أنها حاولت أن تدعو إلى هذا الجزء على أساس أنه ثورة، لكن عبد الناصر من أول يوم حتى آخر يوم كان اتجاهه صوب التغيير والمستقبل والتاريخ.
هزم؟ نوافق، ولكن الغريب أن بعض الناس يعتبرون أن السويس مثلا كانت هزيمته، إلى هذه الدرجة يصل تشويه التاريخ؟
السويس كانت حركة أساسية فى العالم الثالث كله.
إفريقيا والشرق الأوسط، اختلفت كلها بعد السويس، إذا كان العرب يتكلمون عن ثرواتهم هذه الأيام، فجمال عبد الناصر أول من وقف فى وجه الاحتكارات، وأمم قناة السويس، أول من عمل قيمة لكل العرب.
أثناء وجود عبد الناصر، كانت قوته وقوة اندفاعه تمنع حوارا حقيقيا مع أفكاره، هذا النهار أنا متحمس لهذه الردة ضد عبد الناصر، لأنها ستنشئ احتكاكا حقيقيا مع أفكاره.
عبد الناصر كان فرضية مطروحة، فرضية أعطت نفسها بقوة واكتسحت أشياء كثيرة جدا، أعتقد أننا سنصل فى النهاية إلى إثبات أن كل ما نادى به عبد الناصر من مبادئ، ومن أفكار وهو صحيح.
هناك أخطاء فى الممارسات، ولكن أين فى الدنيا كلها لم تحصل أخطاء فى الممارسات؟
ثم إن الناس يتوقفون عند الأخطاء فى الممارسات وينشون الإنجازات ، هذا ليس معقولا.
على صفحات جرية أخبار اليوم كتب لى توفيق الحكيم رسالة فى حقيقتها ردا على ماكتبته له، ورغم أننى لم أشر له اسما فى رسالتى، إلا أنه خاطبنى مباشرة.
قال توفيق الحكيم: استلفت نظرى أن الأستاذ هيكل المدافع عن عبد الناصر قد رد على نفسه بنفسه حين وصف من نقدوا اليوم حكم عبد الناصر بأنهم كانوا أشباحا خائفة ضعيفة، وهذ صحيح، لكن هل توجد الأشباح الخائفة الضعيفة إلا فى جو الفزع والرعب؟
لماذا إذن لا توجد أشباح خائفة ضعيفة فى بلاد مثل فرنسا وإنجلترا وأمريكا والسويد وغيرها من البلدان التى لا يعيش أهلها فى الرعب والهلع والتعذيب والمعتقلات والقتل والنفخ فى البطون والإعتداء على أعراض الزوجات والبنات والأخوات مع تشويه المعارضة بتلطيخها بتهم التآمر والخيانات.
أما عن شجاعة ناقد اليوم الذى ينقد لأنه متأكد أن أحدا لن يرد عليه، فهذه بالفعل ليست شجاعة، ولكن الواقع غير ذلك، فإن الرد والرد القاسى المملوء بالتجريح الشخصى، إنما يقع اليوم فى أكثر البلاد العربية على كل من يتجرأ على المساس بقداسة عبد الناصر.
إن الكثير من صحف العالم العربى استقبلت كتابى " عودة الوعى" بالتجريح الشنيع لشخصى، فليطمئن إذن الأستاذ هيكل إلى أن من يتعرض لقداسة عبد الناصر فى مصر وغير مصر سوف يجد من يهب للدفاع عنه بالحق والباطل.
ذلك أن الراكبين على جواد عبد الناصر فى كل مكان هم دائما أكثر الرابحين.
فليطرح إذن مسألة الشجاعة جانبا، فالمسألة ليست مسألة شجاعة، خاصة عند بعض الناس، ولكنها مسألة قضية، وهى عندى على الأخص مسألة محبة ومودة، فأنا أحب شخص عبد الناصر وأوده لأسباب كثيرة يعرفها الكثيرون، ربما كان أهمها أنه كان يحبنى ويحترم آرائى وأرائه، وآمالى وآماله، وكان يعنى ذلك دائما، كان من الطبيعى أن أكون أنا المدافع عنه دائما.
وقد كنت كذلك.
إلى أن كثر الهمس من حولى باتهامات فظيعة، تتكاثر كل يوم وتصل أحيانا إلى حد الجرائم التى تعاقب القوانين والشرائع على مرتكبيها بأقصى العقوبات.
ما هو إذن الموقف الذى اتخذه ويتخذه كل صديق يرى الإتهامات الفظيعة ضد صديقه؟
هل يكتفى بالتكذيب والتستر والتمويه والتجريح لكل من يمس الصديق؟
أو أن يطالب بالتحقيق النزيه المنصف حتى يخرج برئ الساحة؟
لقد اخترت الأمر الثانى، لأنى بطبعى ووظيفتى الأولى رجل قضاء، لذلك كتبت لنفسى صفحات " عودة الوعى" أسطر فيها رأيى الشخصى فى الموضوع غير قاصد نشرها فى الوقت الحاضر، ولكنها خرجت من يدى بعد ذلك ونشرت.
وهى ليست عريضة إتهام ولا هى حكم من الأحكام، لأن ذلك يقتضى وجود الوثائق وكشف الحقائق، ولكنها مجرد مطالبة بالتحقيق الدقيق فى اتهامات منسوبة إلى شخص أحبه وأوده، ولما كان هذا الشخص رمزا لأمة فإن محاسبته العامة تصبح حقا من حقوق الأمة.
ولن يكون لأمة من الأمم وعى إذا هى سمحت لستار كثيف يخفى عنها طويلا الحقائق التى تتصل بمن شكل – ولا يزال حتى بعد موته – يشكل مصيرها.
إن تصويرها عبد الناصر بأنه الجثة الهامدة المنسية الضعيفة التى تتكالب عليها مخالب المتظاهرين بالشجاعة هو تصوير كاذب، فهو على العكس قوة قائمة، تنصب له التماثيل الضخمة فى بعض البلاد العربية، وتمنح باسمه الجوائز فى بلاد أخرى، وصوره شامخة على الجدران فى مصر وفى كل مكان.
فتصويره إذن بأنه مات واندثر هو تصوير مغرض يراد به إبعاد الأظافر عن نبش الحقيقة التى تكشف عما يريد إخفاءه أصحاب الأغراض، كما أن قيام المدافعين عنه بالتجريح الشخصى لكل من يريد التحقيق مما يثير الشكوك، فما من مرة دخل فيها مدافع فى لب القضية، وإنما كان اللف والدوران من حولها بالأساليب المعروفة فى ساحات المحاكم بان تنهال الأسئلة الغامرة: وأين كنت فيما مضى؟ ولماذا لم تقل ذلك من قبل؟ وما الذى أسكتك حتى الآن؟
حيل مألوفة من قديم للتشويش على الاتهام لصرف النظر عن جوهر التهمة وإفلات المتهم، ولكن على الرغم من ذلك، تبقى دائما التهم فى صميمها باقية، والجرائم فى حقيقتها قائمة، والتساؤل الدائم هو: هل وقعت أو لم تقع؟ هل ارتكبت أو لم ترتكب؟
هنا جوهر المسألة، وهنا كل القضية، ومن يملك الإجابة الجادة فليتقدم بالوثائق، أما غير ذلك فمهاترات وشعارات وما أصبو إليه هى الحقائق ليطمئن قلبى على كل من كان عزيزا على نفسى، فإذا ثبتت براءته فإنى أكون أسعد السعداء، وإذا أدين فإنى أتحمل المسئولية معه، وأكون بذلك فخورا لأنى أكون قد نفذت الحكم الذى يعيد إلى الأمة وعيها؟
إن من يحب عبد الناصر حقا هو الذى يطالب بفتح ملفه، ليطمئن قلبه بأن له صفحات بيضاء، أما الذين يركبون جواد عبد الناصر فلا يريدون أى إقتراب من الجواد، ويطعنون برماحهم شخص من يمسه، لأن كل ما يهمهم هو ركوب الجواد.
إن كثيرين من أصدقاء نيكسون ورجال حزبه كانوا يريدون له المحاكمة ولا يتسترون على أى اتهامات تثير الريب والشكوك حول اسمه، لأنهم يعلمون أن قطع الشك باليقين هو فى مصلحته ومصلحة الوعى الوطنى، ومهما يكن قدره وقدر خدماته فهو مخلوق ومواطن لا ينبغى أن تكون له قداسة لا تمس وحصانة أبدية تستعصى على كشف الحقيقة.
هذا هو المعنى الذى يجب أن يستقر فى ذهن كل من يحب عبد الناصر حبا حقيقيا وليس حبا نفعيا وكل من يعزه ويقدره حق قدره.
لم أندهش مما فعله توفيق الحكيم وحدى، ولكن الغريب أن زوجة الحكيم نفسها اندهشت ووقعت أزمة بين الاثنين، الحكيم هو الذى قال لى عندما حضر إلى، قال لى بنفسه، قال إن زوجته زعلت، قالت له زوجته أنت أسأت إلى جمال عبد الناصر الذى وقف معك، وقدم لك الكثير ورفعك فوق روؤس الناس جميعا.
بعدها اتصل بى حسين فوزى وقال لى إن توفيق الحكيم يريد الحضور إليك ليسوى بعض الأمور، وأنا عارف إنك زعلان منه.
قلت له: ييجى أهل اوسهلا... هذا بيت توفيق الحكيم.
جاءا إلى ومعهما لطفى الخولى.
توفيق الحكيم قال لى: أنت تعرف أنا أقدرك إلى أى مدى.
قلت له: هذا ما لم أختلف معك فيه أو حوله.
قال لى: تعرف مين اللى نكد على عيشتى؟
قلت له: لا.
قال: مراتى.
قلت له أنا سأقول لك شيئا، وحكيت له أن كمال الملاخ كان قد نشر فى الصفحة الأخيرة من الأهرام خبرا يقول: إن طه حسين يملى جزءا جديدا من الأيام، فأخذت معى سيد أبو النجا وقلت له: لماذا لا تأخذ دار المعارف كتاب طه حسين، ونحن ننشره فى الأهرام؟
سيد أبو النجا كان يعرف طه حسين، وسبق له التعامل معه، أبو النجا اتصل به، وذهبنا إليه فى فيلا رامتان فى الهرم، دخلنا وجلسنا وطه حسين رحب بنا، وجلس يتكلم معنا.
قلت له: قرأت خبرا فى صفحة كمال الملاخ يقول إنك تملى الجزء الثالث من الأيام، ونحن نريد أن ننشره.
فإذا بطه حسين يقول: آه آه... وكاتت له ضحكة تمثيلية، ثم قال بلغة عربية فصحى وبصوت له إيقاع: أخشى أن أقول إنك نشرت هذا الكتاب فى دار المعارف، هذا هو الجزء الثالث من الأيام الذى صدر من دار المعارف.
اتضح فعلا أنه كتاب نشرناه نحن فى دار المعارف، وإن كنت أنا قد صدقت الخبر المنشور، لأنه أولا نشر فى الأهرام، وثانيا منشور فى صفحة كمال الملاخ وسيد أبو النجا حدث له ما جرى معى.
شعرت بالخجل من الموقف، فعرضت على الدكتور طه حسين أن ننشر له أى شئ آخر فى الأهرام، فقال لى: أنت يا سيدى لا تعرف إلا صديقك وصديقنا الحكيم، وأدعو الله أن يمتحنك فيه كما امتحننا، ثم ضحك وانتهى الأمر عند هذا الحد.
بعدها عدت إلى الأهرام، وكان الحكيم يتغدى معى، وكان معنا الدكتور حسين فوزى على نفس الغداء.
قلت للحكيم: أنت وضعتنى فى موقف حرج مع طه حسين، وحكيت له ما جرى معه، إلى أن قال لى: أدعو الله أن يمتحنك فيه كما امتحننا نحن فيه.
قال الحكيم مهونا من الأمر: امتحان ايه بقى.
وحكى لنا حكاية القصر المسحور وهو العمل المشترك بينهما، ومن الذى حصل على مكافأة من وراء الآخر، ومن عمل مع الناشر من وراء الآخر؟
سألنى الحكيم: هل أنت زعلان منى؟
قلت له: لست زعلان.
فقط ذكرته بما قاله طه حسين، وكان الحكيم محرجا وهو يسمعنى لأننى كانت حريصا جدا.
(8)
جاءنى توفيق الحكيم ومعه قصة وطلب رأيى فيها، وبعد أن قرأتها وبدت على علامات عدم الإنبساط، أخذها ومزقها.
كنت سأجن.
قلت له: توفيق الحكيم يمزق قصة من 12 صفحة.
فرد على: يا أخى لا مانع من أن نمزق ما لا يعجبنا لأن العقل يراجع بعد القراءة والفرز.