القضية السكانية تُعد من أبرز التحديات التى تواجه مصر فى مسيرتها نحو التنمية المستدامة، حيث إن النمو السكانى السريع يتطلب توازنًا دقيقًا مع جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفى هذا السياق، تتبنى وزارة التنمية المحلية، رؤية شاملة لمواجهة هذا التحدى، حيث تعمل الوزارة على تحسين الخصائص السكانية فى المجتمعات المحلية، بالتنسيق مع شركاء العمل التنفيذيين والمجتمع المدنى.
وتُعد وحدة السكان المركزية، إحدى الركائز الأساسية فى هذه الاستراتيجية، حيث تقوم بدور محورى فى متابعة وتوجيه الجهود السكانية عبر المحافظات، وهو ما دفعنا للحديث مع الدكتورة فاطمة جيل، رئيس وحدة السكان المركزية بوزارة التنمية المحلية والخبير الديموجرافي، التى تحدثت عن الأبعاد المختلفة للقضية السكانية، والخطط التى تساهم فى تحقيق التوازن بين النمو السكانى والتنمية الاقتصادية، كما سلطت الضوء على الجهود المبذولة فى تحسين مؤشرات الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، وأثر هذه الجهود فى تحسين مستويات المعيشة عبر مختلف المحافظات.. وكان الحوار التالى:
بداية.. كيف تتعامل وزارة التنمية المحلية مع «القضية السكانية»؟
تعمل وزارة التنمية المحلية على القضية السكانية من منظور تنموى يحقق توازنًا بين النمو السكانى والتنمية الاقتصادية، وهذا لن يتأتى إلا بالعمل على تحسين الخصائص السكانية للمجتمعات المحلية بالمحافظات ورصد كل ما يواجه المواطن فى القرى والكفور والنجوع من نقص فى الخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية والمجتمعية والتنسيق بين شركاء العمل التنفيذين والمجتمع المدنى والخاص، لمواجهة ما يتم رصده من مشكلات وحلها بتدخلات سريعة لتلبية الاحتياجات الملحة للمجتمع، هذا بالإضافة إلى التنسيق بين شركاء العمل وتوجيه الموارد المحلية والخطط التنفيذية نحو رفع وعى المجتمع بأهمية مفهوم الأسرة الصغيرة والاستثمار فى أولادهم فى «التعليم والصحة والغذاء» وقضايا أخرى تلمس حياة الأسرة وأطفالها وشبابها، فنحن نعمل مع شركائنا على حل جميع المشكلات التى تواجه الأسرة وأطفالها وشبابها من خلال البرامج التوعويه المختلفة فى المدارس ومراكز الشباب والمساجد والكنائس والمجالس المحلية.
وماذا عن أدوات عمل الوزارة فى هذا الملف؟
الوزارة تعمل من خلال وحدات السكان المنتشرة فى جميع المحافظات ومنسقى السكان البالغ عددهم 8000 منسق سكان يعملون متطوعين، بجانب عملهم بالمحليات لدعم الاستراتيجية القومية للسكان والتنمية 2030، حيث تم إطلاق 99 مبادرة محلية لخفض مستويات الحاجة غير الملباة من خدمات تنظيم الأسرة وخفض معدلات النمو السكانى ومعدلات المواليد والإنجاب الكلى، كما تهدف المبادرات إلى خفض نسب البطالة بين الشباب ورفع نسب مساهمة المرأة فى سوق العمل وزيادة سنوات الالتحاق بالتعليم وخفض نسب الأمية، وهناك المبادرات التى تهتم برفع وعى الأسر والشباب بالقضية السكانية وأثرها على تحسين مستويات المعيشة ورفع الوعى بالصحة الإنجابية وخطر العنف ضد المرأة على استقرار الأسر وعمالة الأطفال والتنمر والتربية الإيجابية وخطورة تعاطى المخدرات على الثروة البشرية والتنمية الإقتصادية، كما أن هناك العديد من المبادرات لدعم مهارات الشباب المهنيه وبناء قدراتهم بما يتلاءم مع سوق العمل، وإعطاء تدريبات فى ريادة الأعمال والشمول المالى وغيرها من التدريبات التى تقدم فرصًا حقيقية واعدة للشباب لكى يتعرف على نفسه من جديد ويعمل فى المجال الذى يحقق له حياة كريمة.
لماذا تُعد الزيادة السكانية تحديًا خطيرًا فى طريق التنمية المستدامة بمصر؟
إن التقدم الصحى الملاحظ من خلال المؤشرات المختلفة مثل انخفاض وفيات الرضع والأطفال دون الخامسة، والذى انعكس على تحسين عدد السنوات المتوقع أن يحياها المواطن منذ ميلاده أدى إلى زيادة فئات السن الصغيرة وهم دون سن المدرسة وكبار السن وهم ما فوق الـ65 سنة، وهذا يشكل عبئًا اقتصاديًا على الدولة فى ظل وجود فئة كبيرة ممن هم فى سن العمل لا تعمل أو دخلها لا يكفى احتياجاتها وهو ما يسمى بـ«معدل الإعالة الكلية»، وهذا العبء الاقتصادى تضطر الدولة لأن تتحمل مسئوليتها تجاه أفراد مجتمعها، وهو ما يجعل التنمية المستدامة صعبة بسبب الزيادة السكانية، حيث تأكل معظم موارد الدولة الاقتصادية لتلبية احتياجات فئة المستهلكين، ولا يوجد فى المقابل فئة منتجة لتغطى هذه الفجوة.
أشرتِ إلى انخفاض معدل المواليد والوفيات، ما العوامل الأساسية التى ساعدت فى هذا التراجع؟
إن انخفاض معدل المواليد يرجع إلى انخفاض معدلات وفيات الأطفال دون السنة، حيث إن هناك علاقة طردية بين معدلات الإنجاب ومعدلات وفيات الرضع وفقد الأجنة، ومن الملاحظ التحسن فى مستويات التطعيمات وتوفيرها لجميع فئات المجتمع، كما أننا لا نستطيع إغفال أثر إتاحة خدمات تنظيم الأسرة للجميع ومجانًيا على الإقبال على استخدام وسائل تنظيم الأسرة، بالإضافة إلى وجود فريق عمل سكانى تابع لوزارة التنمية المحلية يرصد كل ما يعوق السيدات ويحول دون استخدامهن للوسائل.
ما تفسيرك لانخفاض معدل الزيادة الطبيعية بهذا الشكل، وهل هو كافٍ حاليًا؟
إن معدل الزيادة الطبيعية هو الفرق بين معدلى المواليد والوفيات، وكما سبق الإشارة إلى التقدم الصحى الملحوظ ورفع الوعى هما السبب الرئيسى لخفض معدلات الزيادة الطبيعية والنمو السكانى، ولكن هذا لا يكفى لتحسين مستويات المعيشة، حيث اتفق الخبراء على أن معدل النمو الاقتصادى لا بد أن يصبح من 3-4 أضعاف النمو السكانى، حتى يشعر افراد المجتمع بالتحسن بالمستويات المعيشية.
وإذا تتبعنا الزيادة السكانية خلال سنوات التعداد المختلفة، نجد أن هناك زيادةً قدرها 13.8 مليون نسمة بين عامى 1996 و 2006، ثم أصبحت الزيادة 22 مليون نسمة بين عامى 2006 و 2017، ووصل عدد السكان فى يناير 2024 إلى 105.9 مليون نسمة أى بفرق قدره 11 مليون نسمة خلال سبع سنوات، أى بمعدل زيادة قدرها 1.58 مليون سنويًا، وهو ما يدل على انخفاض معدلات النمو السكانى السنوية والذى قد يصل إلى 1.49 فى المائة، وفى يناير 2025 وصل عدد السكان إلى 107.3 مليون نسمة بفرق 12 مليون نسمة خلال 8 سنوات أى ما يقرب من 1.56 مليون نسمة سنويًا، والوصول لمعدل نمو سكانى يقرب من 1.3 فى المائة خلال أخر عام، وهذا يعكس المجهودات التى تمت خلال الفترات السابقة للوصول إلى هذا التحسن.
هناك تحسن فى مؤشرات الحاجة غير المُلباة لتنظيم الأسرة. ما أكثر التحديات التى ما زالت تواجهكم فى هذا الملف؟
تلاحظ زيادة فى مؤشر نسبة الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة وفقًا لآخر مسح لصحة الأسرة المصرية الصادر من الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ولم يصدر النسخة الجديدة من التقرير لكى نستطيع تحديد ما إذا انخفض هذا المؤشر أم لا ، ولكن ما تم التعرف عليه من خلال المسح، أن نسبة كبيرة من هذا المؤشر تعود إلى تخوف السيدات من الآثار الجانبية للوسيلة وهذا يستدعى أطباء مدربين على الاستشارات الطبية مع السيدات، وهو ما تعمل عليه حاليًا وزارة الصحة والسكان من أجل تحسين هذا المؤشر الذى إذا تحسن سوف يرفع من نسبة ممارسة تنظيم الأسرة وخفض معدلات الإنجاب الكلية إلى المستهدف عام 2027.
التقرير أشار إلى أن 5.3فى المائة من الفتيات بين 15–19 عامًا أصبحن أمهات.. كيف تؤثر هذه الظاهرة على المؤشرات الديموجرافية؟
بالتأكيد أن زواج البنات فى هذه السن فى مجتمعاتنا مرتبط بالإنجاب السريع، وهذا له آثاره السلبية على صحة الأم والجنين، وتحديدًا من حيث عدم السيطرة على وفيات الأمهات وفقد الأجنه، ومن أهداف التنمية المستدامة، خفض نسبة وفيات الأمهات العالمى إلى أقل من 70 حالة وفاة لكل 100 ألف مولود حى بحلول عام 2030، ويصل هذا المعدل العالمى فى عام 2023 بنحو 197 حالة وفاة لكل 100 ألف مولود حى مقابل 211 حالة فى عام 2020 و328 حالة فى عام 2000، وفى مصر ارتفعت نسبة وفيات الأمهات من 43 حالة وفاة لكل مائة ألف مولود حى عام 2014 إلى 49 حالة وفاة لكل مائة ألف مولود حى عام 2022 وهو ما يحتاج إلى سيطرة على نسب الإنجاب المبكر بتغليظ عقوبة الزواج دون السن ورفع الوعى بأهمية القانون للحفاظ على صحة البنت والأطفال، وكذلك رفع الوعى بأهمية متابعة الحمل والولادة على أيدى أطباء بصورة منتظمة لضمان حياة آمنة للأم والطفل.
وقد قمت بدراسة سابقة عن علاقة الإنجاب بفقد الأجنة، أثبتت أن فقد الأم للجنين يجعلها تبذل الجهد لتحقق حماية ديموجرافية وإنجاب المزيد من الأطفال وهو ما يؤثر على معدلات الإنجاب الكلية للسيدة فى المجتمع.
ما هى جهود الوزارة للحد من الزواج المبكر وتشجيع الأسر لتعليم الفتيات؟ وما تأثير انخفاض نسبة الأمية على تحسن المؤشرات السكانية؟
تعمل الوزارة من خلال وحدات السكان فى مبادرات لمنع الزواج والإنجاب المبكر ودعم الأسر لاستمرار بناتهم فى التعليم وعدم التسرب منه مثل مبادرة «تحدث معه» والتى أعدتها الوزارة عام 2023 وتتم بجميع المحافظات من أجل تمكين الآباء والشباب معلوماتيًا ورفع وعيهم بالأمور الحياتية ومشاركتهم فى القرارات الأسرية ومنها زواج القاصرات، ومبادرة «خلفتك مسئوليتك»، ومبادرة «أسرتك أمانة»، ومبادرة «من حقنا نعيش»، وغيرها من المبادرات التى تركز على أهمية تعليم البنت وخطورة الزواج المبكر، وتتم هذه المبادرات بالتنسيق مع مديريات الصحة والتعليم والثقافة والأوقاف والكنيسة والشباب والرياضة والتضامن الاجتماعى.
أما انخفاض نسبة الأمية فيساعد فى نجاح برامج التوعية التى تقدم للمجتمع مما ينعكس على تفهم المجتمع للقضية السكانية وأثرها على تحسين مستويات معيشته وأثرها، كذلك على مستويات الخدمات التى تطمح الدولة فى تقديمها للمواطن من حيث انتشارها وجودتها وتيسير الحصول عليها.
كيف تعمل وزارة التنمية المحلية على دعم التعليم وخاصة للفتيات فى المناطق الريفية؟
هناك العديد من المبادرات لدعم التعليم تتم فى المحافظات ومنها «دعنى أتعلم» «كن معلمًا مبدعًا» «قيم وحياة» «قرية بلا أمية» «اتعلم اتطور» ومبادرة «إحنا معاك» بهدف خفض نسب التسرب من التعليم والتشجيع على زيادة عدد سنوات الالتحاق بالتعليم والذى بدوره سيؤدى إلى تَحسُّن مؤشر التنمية البشرية لمصر، حيث يصل هذا المؤشر فى المتوسط فى مصر إلى 7.4 سنة ومن المتوقع أن يصبح 13.3 سنة.
كيف تفسرين التفاوت بين المحافظات فى معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة؟
العادات والتقاليد والأمية والفقر من أهم أسباب التفاوت فى نسب استخدام وسائل تنظيم الأسرة بين محافظات الوجه القبلى وبقية المحافظات، وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا فى هذه المحافظات لتحسين مستويات التنمية فى كافة القطاعات ورفع وعى مستمر وبطرق غير تقليدية ودراسة أهم مشكلات المجتمع وسرعة الاستجابة المحلية لها سواء خدمات صحية أو تعليمية أو اقتصادية.
هل يمكن أن نعتبر أن فجوات التنمية النوعية تؤثر مباشرةً على الفجوة السكانية؟
العدالة فى تنمية المهارات بين الذكور والإناث وفى التعليم وفرص العمل يؤدى إلى تنمية حقيقية، حيث تقديم الفرص لمن يستحقها دون تمييز .
ما أبرز مستهدفات الوزارة فى التعامل مع القضية السكانية حتى عام 2030؟
الوزارة تعمل على دعم المستهدفات الواردة فى الخطة الاستراتيجية القومية للسكان 2030 من خلال وحدات السكان بالمحافظات.
كيف تضمن الوزارة استدامة الجهود خاصة مع تغير القيادات المحلية؟
إن جميع القيادات مهتمة بالقضية السكانية، ولكن بالتأكيد تغيير القيادات يتطلب جهدًا إضافيًا، سواء من الوحدة المركزية بالوزارة أو الوحدات السكانية بالمحافظات لبناء دعم وكسب تأييد القيادات، وتقوم الوزارة بتنفيذ برامج تدريبية للقيادات المحلية بمركز التنمية المحلية بسقارة، للتعرف على القضية السكانية بأبعادها المختلفة ومحاور العمل والمهام المكلفين بها ومنهجية العمل والنماذج والأدوات التى تُستخدم، كما يتم أيضًا النزول للمحافظات وعمل زيارات ميدانية مكثفة.
ماذا عن دور وحدة السكان المركزية فى التنسيق مع بقية وحدات السكان على مستوى المحافظات؟
دور وحدة السكان المركزية هى المتابعة المستمرة اليومية لجهود وحدات السكان بجميع المحافظات وتقديم الدعم الفنى المستمر لبناء قدراتهم على إدارة البرنامج السكانى محليًا ومتابعة مؤشرات تحسين الأداء فى البرنامج، ويتم دائمًا عمل لقاءات دورية ايضًا اون لاين لمناقشة الإنجازات والخطط وأى قضايا اخرى طارئة وعاجلة، كما أن الوحدة تقوم بعمل زيارات ميدانية بالمحافظات لدعم الوحدة ومنسقيها، كذلك قامت وحدة السكان المركزية بالوزارة ببناء إطار مؤسسى قائم على التشاركية وتفعيل اللامركزية فى تحديد المشكلات وأسبابها والتنسيق لحلها مع شركاء العمل السكانى من التنفيذيين والمجتمع المدنى والقطاع الخاص بالمحليات، مع الأخذ فى الاعتبار أن لا مركزية إدارة البرنامج السكانى والعمل التشاركى، وتضافر جميع الجهود كان هو الحل الوحيد لتحسين مؤشرات السكان والمؤشرات الاجتماعية والاقتصادية.
فى رأيك.. ما المطلوب من الإعلام لتغطية القضية السكانية بشكل مسئول وفعّال؟ والكلمة التى توجهينها للشباب والفتيات حول مسئوليتهم تجاه المجتمع؟
التركيز على الإعلام الإيجابى بصورة غير تقليدية محفزة للأسرة وتعمل على ترسيخ مبادئ وقيم إيجابية داخل الأسرة والمدرسة والأندية الرياضية والمساجد والكنائس، كما أن وزارة الثقافة لها دور فى تغيير الوعى والقيم والسلوكيات الخاطئة.
أما بالنسبة للشباب والفتيات فلديهم مسئولية كبيرة فى بناء مجتمع واعٍ متقدم، فالعلم والعمل هما السبيل الوحيد لبناء إنسان مصرى لديه وعى وقادر على تحمل المسئولية داخل أسرته ومجتمعه.


