الأحد 24 نوفمبر 2024

صفحات من كتاب عبدالحليم حافظ (4 ) .. غني صافيني مرة وعلي قد الشوق فانطلق بسرعة الضوء

  • 14-7-2017 | 23:07

طباعة

أعد الكتاب للنشر : محمد المكاوي

كانت الإذاعة هي الملاذ الأخير للفتي النحيل بعدما ترك الوظيفة المضمونة كمدرس موسيقي، والتحق عازفا علي آلة الأوبوا بفرقة الإذاعة مقابل 35 جنيها شهريا، فانتشلته من بركة الندم ورمته في بحر الأمل، وجاءته الفرصة الذهبية عندما تغيبت المطربة نادية فهمي عن تسجيل أحد ألحان الطويل

أروح لمين.. وأشكي

أروح لمين.. وأبكي

وسمع حافظ عبدالوهاب التسجيل مرة بعد مرة، ولم يقل شيئا، ولكنه حمل الأشرطة وجري بها إلي الموسيقار محمد عبدالوهاب، فأنصت إليه باهتمام وطلب أن يراه في مكتبه ليسمع منه المزيد بعدما أحس بنغمة جديدة في صوته، وفي تلك المقابلة لم يتوقف حليم عن الغناء وصفق له الموسيقار الكبير وطلب منه ألا يقطع الزيارات وبدأ عبدالحليم ينتقل من خانة العازفين إلي خانة المطربين في الإذاعة، وشجعه كمال الطويل بقوة، لكن كانت المشكلة هي تشابه اسمه مع اسم شقيقه إسماعيل شبانة، فبدأ يفكر له في اختيار اسم جديد.. إلي أن صرخ فجأة: لقيتها.. إيه رأيك في اسم عبدالحليم حافظ؟!.

المحارب الناجح لا يبدأ الزحف من طريق واحد، بل يبدأه من عدة طرق ليصل إلي مكان واحد!

إن البداية المركزة تعرض عمره كله للضياع في ضربة واحدة وعبدالحليم حافظ اختار طريقين لبدايته.. كمال الطويل ومحمد الموجي!

الطويل متمرد والموجي مجدد .. المتمرد دارس والمجدد موهوب.. الدارس يبصر .. والموهوب يحس!

طرق الفتي الاسمر باب النجاح مع الطويل فانفتحت له الأعماق الفنية واحتك بالموجي ففتحت من احتكاكيهما شرارة أضاءت للجماهير الطريق إلي صوته!

موسيقي الطويل.. ثورة وانفجار.. ضجيج وألم.. آهات عذاب.. وضحكات أمل.. إيقاع هرب من الكسل.. وفكر جمح إلي حد الجنون حروف انطلقت بعد كبت وضيق لها اندفاع نهر.. وجمود بركة .. ضجيج مطرقة وهدوء قبر .. رقصة أفعي وفرحة طفل وتراتيل قديس وصراخ سكير ولكل هذا سبب واحد هو أحداث عمره التي.. رمت إلي نفسه خلاصة تلك النواتج!

ماتت أمه قبل أن يكتشف أنه لابد أن يكون لكل ابن أم!

وهاجر أبوه إلي لندن ليتم دراسة الهندسة في أفخر جامعاتها بعد أن ألقي به بحنان في مدرسة الأورمان القسم الداخلي وبدأ دراسته الابتدائية في سن السابعة أيام كان صاحب شهادة الابتدائية أفنديا.. وصاحب الثانوية.. امبراطورا ولم يكن يحكم التلميذ لا قانون سن ولا مجموع ولا يحزنون.

كان يجلس بجوار كمال في فصل ثالثة ثاني تلميذ يدعي «فوزي سليم» بليد وكسلان يسرق «سندويتشات» الزملاء ويدمن السجائر وبعض المكيفات التي يقع كل من يستعملها تحت طائلة قانون العقوبات هرب فوزي صاحب الصدر ذي الدخان الأزرق من القسم الداخلي ولم يحضر لفصول الدراسة حتي أبلغت المدرسة ولي أمره بخطاب مسجل ليقوم بالبحث عنه في أقسام الشرطة والمستشفيات والحواري والأزقة إلي أن أدله عنه أولاد الحلال في عنوان عالمة مشهورة تدعي «سنية لف ووريني» وعندما هاجم ضابط مباحث الأزبكية منزلها ليوجهوا إليها تهمة خطف التلميذ البليد أبرزت لهم قسيمة زواجها منه!

تلاميذ داخلية الأورمان.. كانوا يعيشون بمنطق نيتشة «الصقر يحب أن يأكل العصفور»!

كانت غابة صغيرة تضم ألوانا عديدة من الحيوانات البشرية من كافة الأعمار والعقليات تحولت في تكتلاتها إلي شلل وأحزاب وعصابات قدر احترام الكافة لك - في تلك الغابة الصغيرة - يكون بنسبة نموك البدني وحالتك الصحية ووزنك وطول لسانك إن كل هذا يحمي وجبات الأكل المنصرفة لك من الإدارة أو تلك التي تأتي في زيارة... يحمي ملابسك وكتبك وأقلامك .. يحمي!

لكن كمال الطويل احتمي في شيء غير كل هذا.. احتمي في صوته بعد أن عشقه المدرسون والنظار والتلاميذ «فمنحه استاذه أحمد خيرت» لقب «مطرب الداخلية»!

لم يحتم من بطش الأقوياء .. بقوته.. احتمي منهم بحبهم له!

وسمع أن أباه قد حزم حقائبه في لندن ليعود إليه فاتحا احضان الحنان بعد أن نال الابتدائية والتحق بالسعيدية ولكن حينما عاد الرجل صعب عليه أن يفتح ذراعيه فقد كانت تتعلق باليد اليمني.. بعض الحقائب والأحمال وكانت تتعلق باليد الأخري زوجة جديدة جميلة!

والتهم سنوات الدراسة في السعيدية واندفع منها إلي كلية الفنون التطبيقية بعدها بأربع سنوات تم تعيين كمال الطويل رساما معماريا بمصلحة الاشغال العسكرية بالإسكندرية!

والمرتب!

خمسة وعشرون قرشا يوميا يخصم أيام الجمع والعطلات الرسمية والأعياد والمواسم وشم النسيم!

واستطاع «الباشمهندس» أن يقطع من هذا المبلغ ما يكفي نفقات دراسته في معهد الموسيقي العربية.. لم يكن الطويل يكره دراسته الهندسية ولكنه اكتشف ذلك الفارق الهائل هنا بين أن تحب ما تدرس.. وأن تدرس ما تحب!

بهذا الحب استطاع كمال الطويل أن يقف علي رأس دفعته حاملا علي كتفه شهادة مكتوب تحت خانة الترتيب بها الأول!

وكانت أحسن مكافأة لهذا الإنسان المتفوق أن ينتقل لمناخه الطبيعي ومكانه المناسب.. توفرت له وظيفة بوزارة الشئون الاجتماعية: رسام!

وظل يلف ويدور ويسعي ويحمل جوابات التوصية وكروت الوساطة.. ومبالغ الرشوة.. حتي انتقل إلي وزارة المعارف .. مفتش موسيقي!

ولم يرض بكل هذا ثار وانفجر وطلب مقابلة الوزير وخبط بكفه علي بنورة المكتب!

والتحق كمال الطويل بالإذاعة موظفا بقسم الموسيقي ومساعداً للإذاعي الفنان حافظ عبدالوهاب بمرتب خمسة وثلاثين جنيها كانت كافية لتمنعه من أن تغريه مبالغ الرشوة التي تقدمها المواهب الشابة التي تتمني فرصة تنفذ بها إلي أسماع الناس من ميكرفون الإذاعة والأصوات في مصر كثيرة وفيرة تجد الصوت الغليظ.. والرفيع والرنان والمكتوم والقوي والرقيق والباكي والمهرج والمجروح والمذبوح والمبتسم.. لو جلست في غرفة اختيار المواهب الجديدة ستصادفك بكثرة كل هذه الأنواع و لكن من النادر - أو المستحيل- أن تجد الصوت.. الحساس!

المطرب ليس هو الصوت فقط يجب أن تكون له ثقافة ناقد ورهافة شاعر وحساسية أداء!

شخص واحد فقط عرفه الطويل.

اسمه عبدالحليم له كل هذا نشر بعض أنغامه علي أحباله الصوتية.. عبدالحليم يعرف كيف يختار الكلمة .. وكيف ينفذ اللحن وكيف يضيف إحساسه وكيف يوصل للجماهير شعور الآخرين بصدق: المؤلف.. والملحن!!

ظل كمال يدفع عبدالحليم بحكم منصبه من برنامج إلي آخر حتي أصدر معالي الوزير كريم ثابت أمراً بالقبض علي الخائن كمال الطويل!

التهمة:

نشاط سياسي مدبر لاغتيال «فاروق الأول» ملك مصر والسودان.

وتم اعتقال كمال مع مجموعة من الرفاق واستخدم معهم البوليس السياسي كافة أساليب القهر والتعذيب ابتداء من لسعة الكرباج البدائية إلي ابتكارات تكنولوجيا غسيل المخ وحقن الاعتراف ليقر بتفاصيل الخطة .. فلم ينطق بحرف واحد ولزم الصمت وحتي الآن لا يدري - كمال- ما إذا كان صمته قوة إرادة وجرأة أم أن لسانه قد انشل من الخوف والجبن!

وكانت الخطة هي الدخول إلي القصر ضمن اعضاء الفرق الموسيقية في الحفلات الخاصة التي اعتاد أن يقيمها الملك واستغلال ضعف الحراسة في لحظات الانسجام لاطلاق عدد 36 طلقة من خزان رشاش نصف آلي ماركة «كارل جوستاف»

وعندما فشل المحققون في استخراج الاعتراف من لسان كمال الطويل ألقي به في وظيفة ما بوزارة التموين!

والتقي به «صليب باشا سامي» وزير التموين واحبه كان يعشق الموسيقي والطرب وجنده لجمع اسطوانات مكتبة قصره واختيار ما يناسبها وانتهز كمال الفرصة ليشكو له من ذلك الصدأ الفني الذي بدأ يتراكم علي أصابعه وأعلن له عن خوفه من إدمان الجلوس علي قهوة الحرية!

ولم يحتمل صليب سامي أن تفقد الموسيقي موهبة الطويل فأصدر قرارا بعودة الطويل إلي قسم الموسيقي بالإذاعة.

هناك ألح حتي نال قصيدة «دعاء» كتبها أبوه ولحنها فغردت بها فايدة كامل ثم أمسك بتلابيب الأغنية الشعبية «يارايحين الغورية» ثم جري وراء صوت عبدالحليم واقتنع به حافظ عبدالوهاب ورفض نصف اللجنة الرباعية إنجاح صوت عبدالحليم شبانة إلا إذا خضع النصف الآخر «حافظ عبدالوهاب وكمال الطويل» ووقعوا علي نجاح صوت جديد اسمه «فوزي جمال».

وخرج قرار اللجنة بنجاح عبدالحليم شبانة وفوزي جمال!

إن المواهب.. لا تنجح بالقرارات الإدارية أو الوزارية أو الجمهورية.. فمجهود الإداريين الواصلين وأغراضهم ووسائل تأثيرهم بالدعاية والإلحاح والتزويق والتزيين يمكنها أن تنجح أغنية مطرب ولكنها لا تستطيع ومهما كانت أن تنجح المطرب نفسه!

القرار الوحيد هنا .. الذي لا يحتاج إلي مراجعة أو تصديق هو قرار الجمهور!

لا يهم....

غني عبدالحليم «ظالم» و«لقاء» و«صافيني مرة» و«علي قد الشوق» وانطلق إلي القمة بسرعة الضوء.. وركب فوزي جمال الطائرة إلي الكويت ليشتري سيارة مرسيدس وثلاجة وستنج هاوس .. ليصبح واحداً من ألمع اعضاء فرقة كورال الكويت!

وسمعت المنتجة آسيا صوت عبدالحليم... فطلبته لغناء أغنية في أحد أفلامها ولكن بعد أن رأته اكتفت بأن يخرج صوته علي فيلمها وجاءت برجل من الكومبارس لحضور التصوير فقد رأت أن عبدالحليم «معضم» وأن السينما تحتاج لوجه «فوتوجينيك».

ولكن هذه الفكرة تحطمت بعد أن حطم عبدالحليم في أول أفلامه «لحن الوفاء» أرقام إيرادات الأفلام الغنائية منذ عصر عبدالوهاب السينمائي!

شيء صغير كان يمكن أن يوقف القافلة قرار بوقف كمال الطويل عن العمل لخطورته السياسية!

كانت وشاية لا أساس لها من الصحة... فعل دبره الحاقدون الضعفاء فلكي انتصر عليك في فنك .. في حرفتك.. في مهنتك يجب أن أكون أكثر منك دراية في أصول فنك.. أو في أصول الكذب!

هذا هو قانون العصر!

وعندما انفجرت أول قنبلة في حرب 56 أطلق الطويل أعظم صواريخه...

والله زمان ياسلاحي

اشتقت لك في كفاحي

وبدأ من عهدها.. مجموعة أغانيه الحماسية «بالاحضان - السد العالي - مطالب شعب- بلدي يا بلدي - المسئولية - يا أهلا بالمعارك- صورة».

ولم يكتف كمال الطويل بالوصول إلي القمة.. فرغم كل النجاح كان يعيش معه إحساس بالفشل كثيرون قالوا بعدها: إن مدرسته الموسيقية أزعجت كل المدارس الفنية في مصر وزلزلت أسلوب عبدالوهاب نفسه فلم يقف أمامها بذكائه.

عرف الموسيقار أن الاصطدام قد يعوق كليهما عن التقدم فوقف جوارها يحاول أن يسبقها لم يكتف كمال بأنه أول من قدم الأغنية السياسية بعد أن كان المطرب المصري لا يعرف غير الأناشيد الوطنية لم يكفه أن قدم إيقاعات جديدة وتعبيرات سخية .. ركبه شعور بأنه فشل في أن يقدم «غنوة مصر الجديدة».

أحس أنه لا يفعل ما يريده.. ولا يريد ما يفعله وما يفعله لا يريده رغم أنه لايوجد من يفرض عليه شيئا بالقوة أو بالقهر فلا حواجز عنده بين الفعل والإرادة - كل ما في الأمر أن ما يريده لا يعرفه!

وانهار الفنان في صراعه النفسي.. كره إحساسه المشلول.. عقله القاصر عن الكمال.. ووقف يعاتب نفسه في لحن «بلاش عتاب» وبعد أن أتم مقدمته .. أضرب عن العمل وضغطوا عليه وخاطبوا إنسانيته حتي كتب حروف الأغنية علي أوتار أعصابه!

الملحن الناجح.. يكفيه أن يستمع لمن سبقوه في النجاح الموسيقي... ليقدم مثلما قدموا فينجح، أسلوب كمال الطويل غير كل أولئك.. إنه يسمع ارشيف السابقين ليبحث عن شيء لم يقدموه ليقدمه!

لهذا توقف الطويل.. طويلاً.. توقف ثلاث عشرة سنة عن التلحين ليبحث عن الجديد.. أخذ يفكر ويفكر ويفكر ويفكر واستمر يفكر ويفكر وعاد يفكر.. ثم يفكر ويفكر .. ثم قرر بعد هذا التفكير أن يعود!

لقد غاب الطويل.. فترة وغاب الموجي فترات ولكن عبدالحليم استمر لأنه مطرب والمطرب الناجح كالمحارب الناجح يتخذ دائما لبداية زحفه أكثر من طريق.

    الاكثر قراءة