رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

السيدة نفيسة صاحبة العلم والمقام


28-3-2025 | 10:51

.

طباعة
بقلـم: د. محمد الجزيرى

تفخر أرض مصر باحتضانها العديد من مقامات آل البيت الأطهار، ومن بين هذه المقامات الطاهرة، مقام السيدة نفيسة، الكريمة صاحبة العلم، بنت السيد الحسن الأنور بن السيد زيد الأبلج بن الإمام الحسن بن الإمام على بن أبى طالب، زوج السيدة فاطمة الزهراء رضى الله عنها.

وُلدت السيدة نفيسة عام (145هـ-762م) فى مكة المكرمة، يوم الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، فابتهج أهل مكة والمدينة بمولدها، واستقبلوه بالفرح والسرور. ونشأت فى بيت شريف النسب، مفعم بالعلم والفضل، وكانت حريصة منذ نعومة أظافرها على طلب العلم، فحضرت دروس والدها الحسن الأنور فى المسجد النبوى، وأظهرت شغفًا كبيرًا بالمعرفة، حتى قيل إنها حفظت «الموطأ» للإمام مالك، وداومت على حضور مجالسه.

 

تزوجت من ابن عمها إسحاق بن جعفر الصادق، الملقب بإسحاق المؤتمن لشدّة أمانته، ورغم نشأتها فى بيت ميسور، كان بإمكانها التمتع بمظاهر الترف، إلا أنها اختارت طريق الزهد والتقشف، مقتديةً بجدّها المصطفى، ومع ذلك، لم يكن زهدها انعزالًا، بل جسّدت نموذجًا للزهد الإيجابى، حيث سخّرت حياتها لرعاية المحتاجين وقضاء حوائج الناس. وكانت السيدة نفيسة مثالًا يُحتذى للمرأة المسلمة التى أدّت حقوق ربّها، واهتمت ببيتها وزوجها، وساهمت فى خدمة مجتمعها بكل ما أُوتيت من إمكانيات.

وصلت السيدة نفيسة إلى مصر عام (193هـ - 808م) فاستقبلها أهلها استقبالًا بالغ الحفاوة، فقد سبقتها شهرتها، وكانوا متشوقين لرؤيتها. وكان فى طليعة المستقبلين لها التاجر المصرى جمال الدين عبدالله الجصاص، الذى وفّر لها مسكنًا يليق بمكانتها. وسرعان ما تدفّقت الوفود من مختلف الأقاليم لزيارتها، كيف لا وهى من نسل بيت النبوة الطاهر.

وانتقلت لاحقًا إلى دارٍ أرحب، بناءً على رغبة سيدة مصرية تُدعى أم هانئ، وكانت امرأة صالحة تقية. وقبلت السيدة نفيسة الإقامة فى منزلها، فصار مقرّها الدائم. وقد تواترت الأخبار عن كراماتها، ومن ذلك أن ابنة أحد أثرياء اليهود اعتنقت الإسلام بعد أن شُفيت على يدها من مرض أفقدها القدرة على الحركة. فأسلم والدها أيضًا، وعرض عليها منزلًا فى درب الكرويين، المعروف اليوم بدرب الحسينية، لتقيم فيه.

وكان مجلس السيدة نفيسة عامرًا بأكابر العلماء، فكان الإمام الشافعى كثير التردد عليها، وقرأ عليها الحديث، كما زارها الإمام عثمان بن سعيد المصرى، المعروف بـ«ورش»، شيخ قرّاء مصر. وحظيت بزيارة عدد من كبار العلماء، مثل الحافظ السلفى، وذو النون المصرى، والإمام أحمد زروق المالكى، والحافظ الشيرازى، والإمام أبو جعفر الطحاوى الحنفى، وغيرهم.

ولم تقتصر مكانتها على العلم فقط، بل مارست دورًا اجتماعيًا بارزًا، إذ كان المصريون يلجأون إليها حين يظلمهم الولاة، فتزجر الظالم، وتذكّره بالله، فيتراجع عن ظلمه، مما زاد من حب الناس لها.

وكانت السيدة نفيسة تُعدّ نفسها دائمًا للرحيل عن الدنيا، حتى إنها حفرت قبرها بنفسها فى دارها التى أهداها لها والى مصر، عبدالله بن السرى بن الحكم، وتقع هذه الدار عند خط درب السباع، الذى أصبح فيما بعد مشهدها ومسجدها المعروف اليوم.

وتوفيت فى رمضان عام (208هـ - 823م)، وعزم زوجها إسحاق المؤتمن على نقل جثمانها إلى المدينة المنورة، إلا أن أهل مصر رجوه أن تُدفن فى أرضهم طلبًا لبركتها، وبعد أن رأى فى منامه النبى يأمره بالاستجابة لطلبهم، وافق على ذلك، ودفنت فى مصر، حيث صار ضريحها مزارًا تهفو إليه القلوب.

ويقع مسجد السيدة نفيسة فى نهاية شارع الأشرف، نسبة إلى الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، والذى اشتهر لاحقًا بشارع الأشراف لكثرة مقامات آل البيت فيه، وكان أول من شيّد مقامها وقبتها هو الوالى عبدالله بن السرى فى العصر العباسى.

وشهد المسجد على مرّ العصور العديد من الإضافات والتوسعات، ففى العصر الفاطمى، أُجرى عليه تجديدان، الأول على يد بدر الدين الجمالى عام (482هـ - 1089م)، والثانى على يد الخليفة الحافظ لدين الله عام (532هـ - 1137م)، حيث تم ترميم القبة بالكامل وتكسيتها بالرخام.

وفى العصر المملوكى، أنشأ السلطان الناصر محمد بن قلاوون مسجدًا ملاصقًا للمقام عام (714هـ - 1314م). كما شهد المسجد تجديدات فى العصر العثمانى، حيث قام الوالى عبدالرحمن كتخدا عام (1173هـ - 1759م) بإضافة سبيل إليه، وإنشاء ممرٍ خاص للنساء يسهل عليهن الزيارة بعيدًا عن الرجال.

وفى عام (1310هـ - 1891م)، اندلع حريق هائل أتلف جزءًا كبيرًا من المسجد، فبادر الخديوى عباس حلمى الثانى إلى توسيعه وزيادة مساحته، واكتملت هذه التوسعة عام (1314هـ - 1896م).

ويتميّز مدخل المسجد بتصميمه التذكارى البارز، وهو من السمات المعمارية الإسلامية المميزة، كما تتوسطه مئذنة تعود للعصر المملوكى.

ومن الناحية المعمارية، يتبع المسجد طراز «الأروقة دون الصحن»، وهو نمط انتشر فى مساجد العصر العثمانى، ويمتد جذوره إلى العمارة الإسلامية المُبكرة.

وحظى المسجد فى السنوات الأخيرة برعاية خاصة من الدولة المصرية، ضمن جهودها لإحياء مسار آل البيت، فقد بدأت أعمال التجديد منذ عام 2022م، وشملت التوسعة والترميم، بما يضمن الحفاظ على طابعه الروحى والتاريخى.

وتعكس هذه التطويرات حرص الدولة على صيانة مساجد آل البيت، فى إطار رؤية تهدف إلى حماية التراث الإسلامى وتعزيز السياحة الدينية، ويظل مسجد السيدة نفيسة نموذجًا لاستمرار العناية بالمعالم الإسلامية، وشاهدًا نابضًا على العمق التاريخى للإسلام فى مصر.

الاكثر قراءة