عقد مضى على رحيل الخال، رحل طيب الذكر الشاعر الكبير «عبد الرحمن الأبنودى» فى 21 أبريل من العام 2015، أتذكر كلمته (حكمته) تحت شجرة المانجو الخضراء فى باحة منزله وافر الخيرات فى «الضبعية» من أعمال مدينة الإسماعيلية، «إذا جاك الموت يا وليدى.. موت على طول»، وجاله الموت ومات الخال على طول.
رحل الخال بعد أن أدّى الأمانة، جمع السيرة الهلالية، رحل الأبنودى والسيرة من بعده تعيش..
صدق منْ قال السيرة أطول من العمر، وسيرة «بنى هلال» طويلة العمر، أنفق عليها الأبنودى جلّ عمره، ورحل والسيرة تعيش.
¿ ¿ ¿
لا أذيع سراً يعرفه المقربون، اتخذ «الأبنودى» موقفاً غاضباً من القاهرة التى صار لا يعرفها جيداً، أو صارت لا تعرفه جيدا (والتعبير له) فهجرها، هجر قاهرة الثمانينيات والتسعينيات ولم يهجر قاهرة الستينيات التى شهدت ميلاد حلمه، وتضخم هذا الحلم، وانكسار هذا الحلم، ثم شهدت رحيله مفتشاً عن «السيرة الهلالية» محباً لها عاشقاً.. مضروباً بهذا العشق.
رحلة السيرة الهلاليّة استمرت نحو 20 عاماً تقريباً، دخل فيها «عبدالرحمن الأبنودي» عالم السيرة الهلالية الرحب، وظل يجمع شتاتها ويمسك بأطرافها حتى ارتبط اسمها باسمه، قال يوماً إنه بذل كل هذا الجهد لجمع السيرة الهلالية، لأنها الباقية وبقاؤها يضمن بقاء «الأبنودي» ذاته..!
¿ ¿ ¿
لعقود طويلة، ظل العرب يتناقلون «تغريبة بنى هلال»، التى عُرفت لاحقًاً باسم السيرة الهلالية، التى تتناول هجرة قبيلة «بنى هلال» من جزيرة العرب التى حل بها الخراب ونقص فى الأنفس والثمرات فى القرن الرابع الميلادي، والحكايات الملحمية المرتبطة بشخوصها على مدى طويل؛ ليمتزج الواقع الحقيقى مع الخيال الشعبى للرواةِ الشعبيين، ويكون النتاج هو قرابة «مليون» بيت شعر، فى أكبر ملحمة أدبية عرفها العرب فى تاريخهم.
جمع «الأبنودى» السيرة الهلالية فى خمسة مجلدات هى «خضرة الشريفة»، «أبوزيد فى أرض العلامات»، «مقتل السلطان سرحان»، «فرس جابر العقيلي» و»أبوزيد وعالية”.
عاش الأبنودى سنواته الأخيرة على حلمه بافتتاح متحف السيرة الهلالية، كانت تلك الأمنية الأخيرة لـ»الأبنودي» التى نقلتها زوجته الوفية «نهال كمال» فى تصريحات صحافية قبل رحيله بأيام، وأبدى وزير الثقافة المصرى (وقتئذ) رغبته فى تأجيل افتتاح المتحف لحين تحسن حالة «الأبنودي» الصحية، حتى تتاح له فرصة المشاركة فى الافتتاح وتحقيق حلمه، لكن «الأبنودي» لم يكتب له هذا الافتتاح ولا ذاك الحلم الذى طالما داعب مخيلته.
¿ ¿ ¿
متحف السيرة الهلالية مقره مدينة أبنود بمحافظة قنا، ويضم 9864 كتاباً، منها 6917 كتاباً خاصة بالمكتبة، 2447 كتاباً مهداة من «الأبنودي»، والكاتب «جمال الغيطاني»، و500 كتاب مهداة من الهيئة العامة المصرية للكتاب (التابعة لوزارة الثقافة)، وتضم المكتبة إلى ذلك مجلدات وكتباً وأشرطة كاسيت للرواية الأصلية للسيرة الهلالية، ودواوين «الأبنودي»، و132 شريطاً توثق لرواة السيرة الهلالية، وتعليقات «عبدالرحمن الأبنودى» عليها.
¿ ¿ ¿
كثير من المصريين سيظلون يتذكرون صوت «الأبنودى» وهو يقول «قول يا عم جابر» ينساب صوت «عبد الرحمن الأبنودي» فى بداية شريط الكاسيت يتبعه على الفور صوت «عم جابر أبو حسين»، سيرة بنى هلال.. وبطولات «أبو زيد»، و«دياب»، و«الزناتى خليفة».. وجمال «الجازية» الذى يخلب الألباب.. وعشق «عزيزة» بنت السلطان لـ«يونس» الغلبان.
بطولات ومغامرات وسيرة شعبية شديدة الثراء كان لـ«عبد الرحمن الأبنودى» الفضل فى حمايتها من الضياع، عندما ساح فى بلاد الله يجمع فصولها من أفواه منشديها، ويسجلها كاملة على شرائط كاسيت بصحبة الراحل «جابر أبو حسين”.
وقام «الأبنودي» بتسجيلها صوتاً وصورة للتليفزيون المصرى بصحبة الشاعر «سيد الضوى»، داخل بيت السحيمى فى قلب القاهرة الفاطمية.. نفس المكان الذى اعتاد «الأبنودي» فى شهر رمضان من كل عام أن يطل منه على جمهور عريض ربما كان يسمع السيرة لأول مرة فى حياته.
سنوات طويلة من التعب والسفر والتدوين، جعلت المتخصصين الأكاديميين يضعون «الأبنودى» فى مصاف الأدباء والشعراء الأوائل فى تاريخ الإنسانية ليس فقط لتدوين السيرة وجمعها، وإنما لكونه من غير المستبعد – حسب بعض الأكاديميين - أن يكون «الأبنودى» أضاف للسيرة من شعره الخاص، فالسيرة الهلالية هى مئات الآلاف من الأبيات الشعرية المقفاة، التى تنشد بصحبة الربابة على لسان شاعر عادة ما يتقمص شخصياتها، وأثناء التقمص قد يحدث أن ينفعل الشاعر ويخرج على النص؛ لكى يضيف ويؤلف مواقف ترضى جمهوره من المستمعين، وفى هذه الأثناء يقوم الشاعر بتلوين صوته وأدائه حسب الموقف الذى يتحدث عنه.
¿ ¿ ¿
كان «الأبنودى» يفتش فى السيرة الهلالية عن «القومية العربية» التى آمن بها مع الاشتراكية، كانت السيرة الهلالية فى تقديره دليلاً دامغاً على قِدم هذه القومية، وعلى كونها نسيجاً متكاملاً لا نسيجاً مصطنعاً.
وليس ببعيد عن السيرة تأتى مرحلة «مربعات الأبنودى» فالمربعات هى فن عربى أصيل، وكثير من أبيات السيرة الهلالية ينتمى لفن المربع الشعري، ذلك الذى زين به الأبنودى الصفحة الأخيرة من صحيفة «التحرير» المستقلة، فى السنة السوداء التى حكم فيها الإخوان مصر، وانتهت بثورة 30 يونيو 2013 التى أطاحت بحكمهم.
شن «الأبنودى» عبر هذه المربعات هجوماً موجعاً على «الجماعة المحظورة»، قال فيها ما خشى كثيرون أن يقولوه، لم يخشَ، ولم يخف ولا تراجع ولا فكر للحظة فى المهادنة، لم يتولَ يوم الزحف فى 30 يونيو .
لم يغتبط «الأبنودى» فى مرضه قط، وفطَّ من فرشته يقفز فرحا مسرورا إلا مع ثورة 30 يونيو التى أطاحت بحكم الإخوان، كان يحترم ثورة 25 يناير، ويراها البشارة لثورة 30 يونيو، كان على عكس الكثيرين يسير باتجاه شاطئ القناة، القنال كما ينطقها الأبنودي، ويقول «طول ما العذب فى النيل بيجرى، وطول ما المالح فى القنال بيجرى، مصر بتجرى، طالعة لوش النشيد، تغنى موال النهار».
