لا شك أن السؤال الأهم حاليًا بين صناع القرارات أنفسهم فى العالم هو هل يصبح العالم حبيس قرارات ترامب الاقتصادية وهل يكون التوقيت الترامبى ترمومترًا أساسيًا يحرك العالم اقتصاديًا؟
الإجابة القطعية هى النفى، فالولايات المتحدة الأمريكية وما تفعله هو محاولة إنقاذ للعجز التجارى الأمريكى البالغ 131.4 مليار دولار فى يناير الماضى، ومن هنا نقول إن العمق الاقتصادى بالأصل يكمن فى إحداث التوازن فى الميزان التجارى لأى دولة كأحد محركات النمو الاقتصادى الذى يعتمد على عوامل رئيسية أولها زيادة الإنتاج المحلى، وبالتالى فرص العمل وزيادة المبيعات من التصدير، مما يجعل الدولة أى دولة كبيرة أو صغيرة تنأى بنفسها عن القروض الأجنبية لأنها ببساطة تؤثر على استقرار المعاملات المالية.
الأمر الآخر فى عدم توازن الميزان التجارى هو أن الأسواق تحاول التقاط الأنفاس والتكيف الهيكلى، فالخريطة الاستثمارية سوف تتغير عالميًا بفعل السياسات الحمائية.
وهنا يبرز أمر مهم وهو أن العجز التجارى يفرض ضغوطًا على قيمة العملة المحلية بسبب زيادة الطلب على العملة الأجنبية مما يؤثر فى عملية التصدير أيضًا، وخلاصة القول إن الميزان التجارى هو يمين القسم بين الصادرات والواردات مع الأخذ فى الاعتبار العوامل الضاغطة مثل الطلب الاستهلاكى وأسعار الصرف والسياسات التجارية والنمو الاقتصادى والتقدم التكنولوجى والتركيبة السكانية
الموازنة بين العوامل الداخلية والخارجية.
لا شك أن هناك منهجية للنمو الاقتصادى لمصر ليكون لنا نسيج اقتصادى كقوة دافعة أساسية تحتاجها أى دولة، سواء متقدمة أو نامية لقدرتها فى الاعتماد على الذات بالأصل والارتكاز على تكامل الأدوار للوصول إلى اقتصاد تنافسى قائم على المعرفة والاكتفاء الذاتى وقدرتها على توفير فرص العمل وأنها تحتاج لرفع القدرات وتحسين الإنتاجية وزيادة الدخل وحجم الابتكار، وهنا نقول إن الفرصة قد تكون سانحة لاختراق السياسات الحمائية وإنتاج ما يحتاجه العالم حاليًا.
نتحدث عن أحد المحاور الرئيسية وهو الاكتفاء الذاتى المصرى زراعيًا باعتباره أمرًا حتميًا لتنويع الاقتصاد ودعم الابتكار والتكنولوجيا وإعطاء الاكتفاء الذاتى مرونة أكبر بمعنى انعطافها سريعًا بالطرق العلمية وتبنى حلول مستدامة وتنافسية وتكون محورًا للتميز والقدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية بمحفظة زراعية تعتمد على الاستدامة والذات وتخلق بيئة تمكينية لإطلاق العنان للمقومات الزراعية تحت مبدأ «احرث أرضك ثم دافع عنها فى نفس الوقت».
لقد أدركت القيادة السياسية المصرية أن بداية الأمور هى ضرورة وجود حلم لاستعادة مجد مصر قائمًا على رؤية قائد يرى بلده العظيم مصر ويعرف قيمتها ومقدراتها ويضعها فى المكانة التى تستحقها فى مصاف الدول العظمى بحلول عام 2030 ولكل بناء قواعد وكلما كانت القواعد راسخة على أساس علمى سليم كان البناء ثابتًا بدون تهويل أو تهوين بناء غير قابل للهدم، بل بناء أكثر قدرةً على الاستدامة لقرون من السنين، كما كان الحال فى دولتنا القديمة على ضفاف نهرنا الخالد غير ملتفت لآراء الهادمين، لذلك كان يجب وضع استراتيجية ورؤية الاكتفاء الذاتى، فهى ببساطة تمثل أمنًا قوميًا والطريق الأوحد للنجاة من أطماع الكبار وأخطائهم، وهو الطريق الأوحد للوصول إلى الدرجات العليا فى سلم التنافسية العالمية.
بالرغم مما لحق بنا من وجودنا فى بؤرة الاشتباك ومسارح النزاعات قصدًا لإرباك التنمية فى مصر التى لم تقف عند هذه العبارة المقيتة التى تسمى الظروف الراهنة وإنما تخطت كل التداعيات التى لم تترك كبيرًا أو صغيرًا من الدول وكان واقعها كارثيًا على الجميع وقفزت على عبارة الأمور الظرفية.
ليست كل الأخبار سيئة خصوصًا أن الحروب لا تعرف منتصرًا فى المشاهد الاقتصادية عالميًا وإنما الكل خاسر، ومن هنا جاءت الأخبار الجيدة من منظمة الفاو فى لحظة كنا نحتاج فيها إلى الأخبار الحسنة عندما ذكر تقرير منظمة الفاو أن مصر دولة آمنة غذائيًا، بل حققت الاكتفاء الذاتى فى 82 سلعة غذائية واتجهت إلى التصدير، ولولا الحروب غير المتوقعة فى المنطقة والأزمات العالمية المتتالية لكان لها شأن آخر فى ملف الاكتفاء الذاتى بمسألة السيادة الغذائية.
وإذا كان العجز التجارى المصرى السلعى وصل إلى 37.3 مليار دولار مع زيادة الصادرات إلى 40.9 مليار دولار فى تراجع للعجز التجارى بنسبة 4.6 فى المائة على أساس سنوى، بالرغم من الظروف الاستثنائية العالمية والتوترات الجيوسياسية وتأثيرها على قناة السويس، فالدولة المصرية لم تهمل الزراعة فى ظل هذه الظروف الاستثنائية العالمية التى لم تترك أحدًا.
ولنا مثال فى تجربة روسيا والسؤال المهم الذى يطرح نفسه لماذا لم تتأثر روسيا بسلسلة الإيغال فى العقوبات الغربية عليها بل تأثر من فرضوا العقوبات وكأنهم أطلقوا النار على أنفسهم، والإجابة القاطعة أن روسيا تعمل أيضًا تحت مبدأ «احرث أرضك ثم دافع عنها فى نفس الوقت».
وهنا نقول إن القيادة المصرية حرصت منذ اليوم الأول على العودة إلى عهد الأجداد فى الزراعة ويعود الفلاح المصرى منتجًا مرة أخرى مشاركًا فى نهضة بلاده، ومع ذلك لا يعنى الاكتفاء الذاتى الاستغناء عن الآخرين أو عدم التبادل التجارى، ولكن الفكر فى الاكتفاء الذاتى هو أن لكل دولة رسالتها وأهدافها وشغفها فى الحياة، والغاية من حالة الاكتفاء هو توفير الصلابة الرافعة وجعل الدولة فى حالة حيادية قوية قادرة على التوازن بالإحساس والمعنى المطلق.
وصولنا إلى الاكتفاء الذاتى فى بعض السلع التى تسمى سلع المعاناة وغيرها من السلع الأساسية الحياتية تجعل الدولة تصل إلى بوصلتها الداخلية. ومن ثم يحرر الدولة من كل سيناريوهات التبعية والتنازلات أو تسليم مفاتيح الدولة لدولة أخرى تحتاج إليها أشد الحاجة، وهنا المعنى الحقيقى للاكتفاء الذاتى «أن تكون منتصرًا مهما كانت الظروف الاقتصادية المحيطة».
لقد أدرك الرئيس السيسى مبكرًا أن الوعى يتطلب الاكتفاء الذاتى وأن مفاتيح سعادة المصريين فى امتلاكهم لكل ملفات عيشهم فلم ينتظر فهو شخص لم يخلق للانتظار، بل خلق معه وفى قيادته العطاء الدائم.
إن الفكرة الأساسية أن الاكتفاء بالأساسيات يعد سبيلاً إلى الاعتماد على النفس وتطوير الإمكانيات الذاتية وتقليل الاستيراد، كما أنه يدعم السيادة الوطنية من خلال الاعتماد الكامل على الموارد والإمكانات الذاتية فهو حماية وطنية فى حال تعرض الدول للحصار لا قدر الله وتحقيق العزة والكرامة والاستقلالية للدولة وقرارها، وكذلك خلق فرص العمل وحل مشكلة من أهم المشكلات الاقتصادية ألا وهى مشكلة البطالة.
لقد نظر الرئيس السيسى إلى التنمية المستدامة وهدفها الأساسى المهم وهو الاكتفاء الذاتى لشعوب الوطن، فتصبح مكتفية ليست عالة على الآخرين، فإذا ملكت حاجاتها أو القدرة على توفيرها أصبحت مالكة لقرارها وسيادتها والتنمية الحقيقية فى الأساس امتداد طبيعى للنضال الوطنى، فالاكتفاء الذاتى هو أحد تجليات التنمية المستدامة.
الواضح دومًا أن مصر تسعى إلى تغيير خريطة الصادرات ولكن فى ظل استيعاب التنوع والاختلاف ووجود آلية لاستغلال الظروف لحالة الارتباك فى سلاسل الإمداد العالمية، حتى لو مساهمتى ضعيفة فقد جاءت الفرصة لاستخدام الاقتصاد والتجارة كسلاح لإحداث التوازن التجارى لرفع العبء الاقتصادى عن كاهلنا.
وللرد على كل من يشكك فى قدرات الوطن غير المؤمنين بفكرة الاكتفاء الذاتى هؤلاء المرجفون الذين لا ينظرون إلا إلى الأخبار السيئة فقط، بينما ليس كل الأخبار سيئة فأغلبها جيدة تحدثنا عنها التقارير الدولية التى لا تجامل أحدًا ومنها تقرير منظمة الفاو العالمية للأغذية والزراعة الذى ظهر فى الأسابيع الماضية والذى تحدث عن الدول التى سوف تعانى من الجوع والعطش حتى عام 2030 ومنها دول صناعية كبرى لماذا؟ لأنها معتمدة على الاستيراد لطعامها بالكامل وأهملت الزراعة، أما مصر «فمنظمة الزراعة الفاو العالمية» وسوف نعطى أمثلة فقط لبعض المحاصيل الزراعية، حيث قالت المنظمة إن مصر احتياجها السنوى العادل 24 مليون طن خضراوات وفاكهة سنويًا، وأقصى احتياج هو 28.5 مليون طن، ولكن الذى حدث أن مصر وسياسات الرئيس السيسى نحو الاكتفاء الذاتى هو إنتاج 37 مليون طن خضراوات وفاكهة 26 مليون طن من الخضار المتنوع و7 ملايين طن فاكهة، ولأول مرة مصر تدخل على خط إنتاج وتصدير العنب وتصدر 120 طنًا من العنب الأحمر و1.8 مليون طن من التمور فائقة الجودة، كما تحتل المركز الأول لمصدرى التمور إفريقيًا بعد سنوات طويلة ظلت فيها تونس تحتل المركز الأول، بل أصبح لدينا أكبر مزرعة تمور أو نخيل بإجمالى 203 ملايين نخلة بتوشكى السعيدة والعوينات على مساحة 40 ألف فدان وعدد النخيل المثمر الكلى يصل إلى 3ملايين و600 ألف نخلة وهو محصول أساسى واستراتيجى، وإنتاجنا يمثل 25 فى المائة من إنتاج العالم العربى تقريبًا بعدد نخيل مثمر يتجاوز الـ16 مليون نخلة، ولدينا أعلى خمس محافظات فى إنتاج التمور هى أسوان الوادى الجديد الجيزة الشرقية والبحيرة، هذا بالإضافة إلى بنجر السكر والمساحة المنزرعة تجاوزت 600 ألف فدان استلام المحاصيل بالباركود من المزارعين طبقًا للشمول المالى الاحتوائى وإنتاج 1.8 مليون طن لمخزون استراتيجى يتجاوز الخمسة أشهر، واستطاع جلب الاستثمارات فى غرب المنيا على مساحة 180 ألف فدان أما القمح ففى تقرير 23/ 24 بلغت المساحة المنزرعة 3.42 مليون فدان بإنتاج 9.4 مليون طن بمتوسط 19.3 إردب للفدان بخريطة حقيقية لمحصول القمح والتوسع الأفقى والرأسى فيه على قدم وساق، بالإضافة إلى التعاون مع معهد البحوث الزراعية الحقلية لإنتاج 14 صنفًا من الأرز بالطرق العلمية السليمة فى إطار رؤية وابتكار لا محدود للمنهج العلمى الزراعى ويترأس الأرز المصرى عالميًا صنف جيزة 177 وأشقاؤه من الأصناف، هذا بالإضافة إلى التصنيع الغذائى الذى يحتاج إلى حديث آخر منا لأنه من مواطن القوة الزراعية.
فقد فعلناها من قبل وإذا كنا نقول لأصحاب السيناريوهات الكارثية للاقتصاد المصرى فى ظل الظروف الراهنة عالميا والتضخم المستورد فنقول إن مصر لا يقلق عليها أحد ولا داع لسياسة التخويف، فمصر تعرف كيف تدير أزماتها ولديها من الابتكار السياسى والحلول ما يجعلها تنفذ برامج جريئة. وقوية التزاما مع تقارير المؤسسات الدولية المالية التى تقول إن معدل النمو فى مصر رغم كل التحديات الاقتصادية العالمية سوف يحقق نمواً متوقعاً أما الخوف على الاحتياطى النقدى الذى يربو والحمد لله فأبلغ رد هو وصف «مجلس التعاون الخليجى بعبارة أن الأمن القومى الخليجى جزء من الأمن القومى المصرى»، فمصر التى تتمتع بقوة استراتيجية وعسكرية ودورها المحورى للاستقرار فى الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربى وشمال إفريقيا.
والخلاصة عندما تكون هناك دولة جعلت الزراعة أولوية قصوى من البداية فلا تخشى عليها من أى خطر أو تهديد من دولة أخرى أو حتى من العالم كله، فالزراعة هى شريان الحياة والسبيل إلى النجاة حتى لو اجتمعت عليك الدنيا بما فيها عاشت أرضنا الطيبة.
لقد حان الوقت لإطلاق العنان لتغيير خريطة الصادرات المصرية واختراق السياسات الحمائية والنفاذ إلى أسواق جديدة.

