المبدع الحقيقى فى تحدٍ مستمر مع نفسه فكلما قدم عملا ناجحا يظهر التساؤل ماذا سأقدم بعد ذلك؟ وهل سيحظى بنفس النجاح؟
الصراع الداخلى عند المبدعين لا يتوقف فكما تقول الحكمة
«ليس المهم الوصول إلى القمة ولكن الأهم الحفاظ عليها»
وإن كنا نريد الحفاظ على مكانتنا فى الفن فأكرر ما كتبت سابقا أن علينا التعامل مع الفن كصناعة بكل مكوناتها من أول تتر المقدمة حتى نهاية تتر الختام، فتتر أى عمل فنى مثل عنوان المقال للصحفى أو تشكيل الفريق قبل بدء المباراة وله أهمية خاصة جدا فى أى عمل فنى والتترات فى مصر واحدة من أهم قواها الناعمة، ومازالت تعيش فى وجدان الشعب العربى بأكمله، ولك أن تتخيل أن المطرب الكبير على الحجار سوف يقدم نهاية الشهر الجارى حفلا غنائيا بعنوان «تترات وذكريات» من إخراج أحمد الشرقاوى.
هذا الحفل مجرد تأكيد على أهمية التترات فى الأعمال الفنية المصرية تأثيرها على المشاهد؛ وعندما نتحدث عن التترات سنجد أنها كانت السبب الأول فى شهرة العديد من المطربين والشعراء والملحنين، وكما كتبت سابقا عن ساحر الكلمات الشاعر الكبير سيد حجاب، فاليوم أكتب عن معجزة الموسيقى المصرية عمار الشريعى توأم النجاح الذى استطاع ترجمة كلمات حجاب إلى موسيقى وألحان..
فعندما تسمع الأذن تتر عمل فنى يبدأ بالعود ويمتزج بالكمان والناى وتشعر بالشجن فأنت تستمع إلى أحد تترات عمار الشريعى التى بلغت 150 مسلسلا تليفزيونيا منها «الشهد والدموع، العائلة، الليل وآخره، أرابيسك، حدائق الشيطان، عبدالله النديم، أبوالعلا البشرى، الرحايا، شيخ العرب همام، حديث الصباح والمساء، رأفت الهجان، «لا»، الزينى بركات، محمود المصرى، رجل الأقدار، أهل الهوا وموسيقى تصويرية للعديد من الأفلام السينمائية..
هذا بالإضافة إلى أكثر من 300 أغنية لأغلب المطربين..
عمار الشريعى (قماشة كبيرة) بلغة أبناء المهنة ولا تستطيع الكتابة عنه فى مقال، بل يحتاج إلى مجلدات وهنا سوف أركز على بعض المواقف التى كانت تحديا بين عمار الشريعى ونفسه وأولها موسيقى مسلسل رأفت الهجان مع الكبير صالح مرسى والإخراج للمبدع يحيى العلمى عام 87 ..
لأنه من السهل أن تعمل عملا كبيرا يعيش مع الجمهور، لكن المشكلة خصوصا عند المبدعين (هنعمل إيه تانى أكتر من اللى اتعمل؛ هنقدم إيه وياترى العمل هينجح مثل مسلسل دموع فى عيون وقحة اللى عمل موسيقى التتر لها برضة عمار الشريعى مع مرسى والعلمى والنجم الكبير عادل إمام عام 80 وخصوصا أنه نفس الملف).
فكان التحدى الذى أتحدث عنه أصعب تحدٍ فى الكون أنك تتحدى نفسك فعلى عكس غالبية المسلسلات اعتمد تتر مسلسل «رأفت الهجان»، الذى عرض للمرة الأولى فى رمضان 1988 على الموسيقى وحسب، ورغم غياب الكلمات التى تعلق بسهولة أكبر فى الأذهان إلا أن موسيقى التتر حفرت مكانتها بعبقرية على مدار السنين فى قلوب وعقول المشاهدين، ومن الصعب جدًا أن تسمعها دون أن تتعرف بسهولة على العمل.
الموسيقار عمار الشريعى قال فى أحد لقاءاته إنه جلس فترة طويلة يعانى حتى استطاع أن يكون جملة موسيقية يبنى عليها العمل فأخرج لنا هذا التتر العبقرى المحفور فى أذهان الجميع..
تحدٍ آخر للموسيقار الكبير عمار الشريعى هو أن يجعل الممثلين أبطال العمل هم من يغنون مثلما حدث فى أكثر من مسلسل «غدًا تتفتح الزهور»، أبنائى الأعزاء شكرا أو مسلسل لا يا ابنتى العزيزة».
فقال الشريعى «أصعب أغنية تعاملت معها وحيرتنى كثيرا كانت أغنية «حلوة يا زوبة»، التى كتبها سيد حجاب، فى مسلسل «غدًا تتفتح الزهور»، وقال عنها الشريعى رغم أنها تبدو للمستمع العادى عملا بسيطا وخفيفا، لكن الصعوبة الحقيقية كانت فى التعامل مع صوت محمود ياسين الأجش، الذى كان من الصعب على الناس أن تتقبله كمطرب، خاصة فى أغنية للأطفال.
خاف الشريعى أن تتحول الأغنية بسبب خطأ بسيط فى التعامل مع طبقة صوت محمود ياسين من أغنية فى صندوق ذكريات الطفولة اللطيفة، لمصدر خوف للطفل الذى ممكن ينزعج من صوت ياسين الحاد، وأصبح التساؤل الأهم: «كيف يمكن إنتاج لحن يتناسب مع طبقة صوت محمود ياسين، وفى نفس الوقت يتقبله الأطفال؟».
من هنا توصل الشريعى لفكرة أن اللحن ذاته يكون خفيفا يناسب الطفل، لكن باستخدام آلات ونوتة موسيقية قريبة من نبرة ياسين، لذلك اعتمد بشكل أساسى على فكرة «كلاكس العربية».
ويقول الشريعى ذهبت بنفسى إلى سوق التوفيقية، كى اختار «كلاكس» مناسبا للفكرة واللحن، يكون أجش، ومزعجا فى طبيعته، وفى نفس الوقت تؤدى وتعكس طريقة استخدامه نغمة طفولية تبهج المستمع.
صوت الكلاكس كان بيرن فى أذنى قبل أن أشتريه، وبذلت مجهودا كبيرا كى أصل لأقرب صوت فى مسامعى، حتى وصلت للنغمة التى ظهرت فى الأغنية، إذ تعاملت مع الكلاكس تمامًا كآلة موسيقية لها نوتة محددة.
((حلوة يا زوبة طعمة يا زوبة اللى شافوكى قالوا أروبة قد البلية تلف الدنيا اكسبريس مجرى ولهلوبة))..
تحدٍ آخر للمبدع عمار الشريعى أنه استطاع أن يجعلنا نردد الكلمات باللحن حتى من غير موسيقى، وهذه موهبة من الصعب أن تجدها عند كثيرين وهذا ماحدث فى تتر مسلسل (بابا عبده)، وبالنسبة لجيلى يكفى أن تسمع هذه الكلمة (بابا عبده) حتى تغنى الأغنية بالكامل وسط مشاعر الشجن بداخلنا ورغم أننى شاهدت المسلسل كثيرا، لكن فى كل مرة أكتشف به جوانب جديدة، خاصة بعد أن كبرنا وأصبحنا آباء؛ الأغنية قام بالأداء قائد الأوركسترا عبدالمنعم مدبولى مع فريق كورال كامل متكامل من الممثلين، الذين أصبحوا نجوم العصر فيما بعد مثل صلاح السعدنى، فاروق الفيشاوى، ويحيى الفخرانى، ومحمود الجندى، وآثار الحكيم، وفردوس عبدالحميد، وغيرهم..
من الأشياء الجميلة أنك تسمع صوت عمار الشريعى بكل مايحمله من شجن يحرك المشاعر، وهو بيغنى تتر البداية والنهاية لفيلم كتيبة الإعدام أو تتر النهاية فى مسلسل عصفور النار أو الرباعيات بمسلسل الأيام أو فى مسلسل ريا وسكينة، والمتعة قمة المتعة لما تسمعه فى أغانى فيلم البريء من كلمات الخال عبدالرحمن الأبنودى عندما يقول:
«الدم اللى فى إيديا / بالليل ينده عليا / ويقولى قتلت مين؟
أو أغنية محبوس يا طير الحق / قفصك حزين ولعين»..
لقد عاش عمار الشريعى مثل الطير الطليق بقلب بريء يغنى بدموعه لضحكة الأوطان.
