تساقطت «أوراق العمر»، عمر طيِّب الذكر «لويس عوض»، والاصطلاح نستعيره من كتاب له شهير - قبل 35 عاما (صدر فى العام 1989)، لم يصل نوره إلى عموم أهل مصر كما كان مرجواً.
ولد «لويس عوض» فى شمال الصعيد، محافظة المنيا تحديدا، أهل المنيا، ومنهم د. طه حسين عميد الأدب العربى محسوبون على الصعيد، هكذا ينظر إليهم أهل الدلتا (الشماليون)، لكن أهل الصعيد ينظرون إليهم بوصفهم «أنصاف صعايدة»، ليسوا بشماليين ولا بجنوبيين، ولعل فى هذا ميزة، فهم يجمعون انفتاح الشماليين وعناد الجنوبيين، وبهذا تولد فى هذا الإقليم شخصيات ثقافية متعددة تعرف بالانفتاح على الآخر (الشمال تحديدا) وتعرف بالصلابة والعناد الجنوبى فى آنٍ.
د. طه حسين كان منحازا لفترة طويلة لأدب البحر المتوسط وحضارته وثقافته، حتى عُرف بأنه من دعاة «المتوسطية»، ولويس عوض كان كذلك أيضا.. وهذا العنصر المؤثر فى الثقافة المصرية (العنصر المتوسطى) عادة ما يُنتج مثقفا ليبراليا، وسطيا فى تفكيره وإن كان يميل إلى الانفتاح أكثر، وبهذا المنطق حاول «لويس عوض» أن يُفهم المحققين معه وقتئذ، أنه ليس ماركسيا وإن كان قرأ كثيرا فى الاشتراكية وتعجبه بعض جوانبها، لاسيما فكرة «العدل الاجتماعي»، لكن أحدا منهم لن ينصت إليه؛ لأن أحدا منهم لم يفهمه بالأساس!
كان سهلا على لويس عوض أن يدعى «الماركسية» بعد خروجه من المعتقل (1964)، فالماركسية فى منتصف الستينيات لم تكن توجب الاعتقال، ولكنه أبى ادعاء ذلك، على ما فيه من مكاسب.. فبعض الماركسيين فى الستينيات اكتسبوا مناصب من هذا الانتماء، عناد «لويس عوض» أبى عليه أن يفعل هذا، وشرفه الفكرى ونصاعته الثقافية أبت عليه أن يتجه هذا الاتجاه البراجماتي، مثلما أبى أن يبيع انتماءه الفكرى المنفتح على «المتوسط» لقاء أن يشترى النقد الماركسى الذى كان رائجا فى الستينيات، وأبى أن «يعربن» (من العروبة) اتجاهاته النقدية، ليتوافق مع ما كان ذائعا فى نفس الحقبة، فى الوقت ذاته وبالتوازي، تابع لويس عوض الخط المتسامح – وبقوة- طوال حياته، حتى لو أتت المغالاة من النظام ذاته، ففى عصر السادات دافع «عوض» عن نظام عبد الناصر الذى كانت وسائل الإعلام الرسمية لا تكف عن الهجوم عليه وقتها، ودافع عن الاستنارة فى مواجهة الدولة التى كانت تحالفت آنذاك مع «الإخوان» فى مواجهة اليسار المصري.. وكان باستطاعته أن يكسب أرضا كبيرة فى عصر عبد الناصر وأن يكسب أرضا أكبر فى زمن السادات، لكنه لم يكسب هذا ولا ذاك.. واكتفى فقط بمكانته السامقة فى الأوساط الأدبية، مدافعا عن «شرف النقد»..!
بهذا يكون أول عنصر أساسى فى شخصية لويس عوض بارزا للعيان: الصعيدى فى أفضل صورة، الصلب المتسامح معا..!
ربما أثار حفيظة عدد من المثقفين ما استشعروه من ترفع الكبير مقاما «لويس عوض» عن الانخراط فى المجالس الثقافية أو التحزب الثقافى والشللية أو الانحياز لهذا أو ذاك من التيارات الفكرية، ووصفوه بالغرور والنرجسية؟!
الحقيقة أن منْ جالسوا الرجل (ولسوء الحظ لست منهم) شهدوا له بالتواضع والأدب الجم، ما لم يفهمه هؤلاء أن طيب الذكر «لويس عوض» كان «أكاديميا» متشبعا بالروح الجامعية حتى القرار، وهذه الروح إنما أتته من دراسته فى الغرب لسنوات ليست قليلة..!
درس لويس عوض (الذى تخرج فى كلية الآداب بالجامعة المصرية فى العام 1937 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف) فى إنجلترا ليعد الماجستير فى الأدب الإنجليزي، وحصل بالفعل عليها من جامعة «كامبريدج» فى العام 1943، ثم حصل على دكتوراه فى الأدب من جامعة «بريستل» البريطانية فى العام 1953، وعمل مدرسا مساعدا للأدب الإنجليزى ثم مدرسا ثم أستاذا مساعدا فى قسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة القاهرة لنحو 11 عاما، ثم رئيس قسم اللغة الإنجليزية عام 1954؛ ليكون أصغر وأول مصرى يُمسك برئاسة هذا القسم وقتئذ (كان عمره وقتئذ لا يتعدى 39 عاما) ثم اضطلع بالإشراف على القسم الأدبى بجريدة «الجمهورية» إلى جانب التدريس الجامعى فى أواسط الخمسينيات، وكانت «الجمهورية» وقتئذ صحيفة «ثورة 23 يوليو» الأساسية..!
ومن هذا المنبع (الجامعة) انطلق «لويس عوض» يؤسس لنقد أدبى جديد فى مصر، دعنا من مسميات منهجه، هو ذاته لم يكن معنيا بتسميته، كما أنه لم يكن معنيا بأن يدفع عن ذاته اتهامات من عينة، التعالى الأكاديمي، موالاة الحضارة المتوسطية ضد الحضارة العربية، الانحياز لمصر (القبطية) فى مواجهة مصر (العربية الإسلامية)، كما اتهموه بأنه (شطح فكريا) عندما امتدح مسلك «المعلم يعقوب» وللمعلم يعقوب قصة أخرى..!
المعلم يعقوب شخصية من التاريخ المصرى الحديث، عُرفت بمساندة المحتل الفرنسى لمصر (1798-1801)، وهو صعيدى من المنيا (مثل لويس عوض) ناصر الاحتلال الفرنسى، ورآه نموذجا للخلاص من ربقة الحكم العثمانى الذى كان وصل بمصر إلى الدرك الأسفل من الانحطاط.
والحق أن الغالبية الساحقة من المثقفين المصريين المحدثين وقفت ضد هذا الرجل (يعقوب)، ليس لأنه قبطى بالطبع، ولكن لأنه ناصر الاحتلال، وكثير ممن حملوا على (المعلم يعقوب) كانوا من اليسار المصرى.
لافت وللتاريخ، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ذاتها تبرأت منه، ولعنته فى وقتها – قبل أكثر من مائتى سنة من اليوم- لكن لويس عوض رأى فيه شيئا مختلفا.
ندع المجال هنا للناقد الكبير الراحل «رجاء النقاش» الذى تناول هذا الجدل فى مقال له بالأهرام قبل نحو عشرين عاما، وكتب فى نهايته: «أما أستاذنا الناقد والمفكر الكبير الراحل الدكتور لويس عوض سجل شطحة من شطحاته الكبرى، فرفع المعلم يعقوب إلى مصاف أبطال مصر العظام الذين شاركوا فى الكفاح من أجل استقلال البلاد، من على بك الكبير إلى جمال عبدالناصر.. ولا يمكن وصف كلام أستاذنا الجليل لويس عوض إلا بما وصفناه به من أنه شطحة من الشطحات الخيالية التى لا تستند إلى أى أدلة علمية وتاريخية دقيقة.».
جرّ لويس عوض على نفسه – إذن – الانتقاد الواسع بمدحه المُبالغ فيه لشخصية المعلم يعقوب هذا، لكن هل يمكن اختزال المنجز الثقافى للويس عوض فى هذه الثغرة التى ربما يلتمس فيها البعض له الأعذار؟ بالطبع لا، فهو – غالبا – ما (شطحها) انطلاقا من رؤية «أكاديمية»، وانحيازا للمتوسطية، تلك التى بشرت بها بالأساس «حملة بونابرت» على مصر، لكنه لم يمتدح العدوان الفرنسى ذاته، ولو عاش «لويس عوض» فى زمن الفرنسيين الغزاة لكان من مقاوميهم، ولربما ناصب المعلم يعقوب العداء.. كان فقط يصبو إلى معنى معقد لم يفهمه كثيرون.. جاء هذا المعنى من انتمائه الأكاديمى المنفتح الأوربي.. وهذا على سبيل التماس الأعذار، على قول لـ»جعفر بن محمد»، «إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته، وإلا، قل: لعل له عذرًا لا أعرفه».
يكفى «لويس عوض» ما خلفه للمكنية المصرية والعربية من المؤلفات التى استهلها شابا بكتبه الثلاثة: (فن الشعر لهوراس) والثاني: (بروميثيوس طليقا) والثالث: فى الأدب الإنجليزى الحديث.. وهى أطروحات أكاديمية.
أما مؤلفاته التى طُرحت للقراء فى عمومهم، فبلغت 15 مؤلفا، صودر منها «مقدمة فى فقه اللغة العربية» وتلك تناولناها آنفا، ولعل أشهر مؤلفاته «مذكرات طالب بعثة»، أوراق العمر (مذكراته).
وفى جميع هذه الأعمال كان مفتاح «لويس عوض» شديد الوضوح، كان فى الحقيقة يفتش عن «الحداثة» تلك التى بشَّر بها فى الأدب والنقد والفهم التاريخي، ويبشر بمصر مختلفة عن رؤية الآخرين..!
